علي أبو الريش

نحن الآن في القرن الحادي والعشرين، لكننا لو تخيلنا فيلسوفاً عاش في القرن الثالث عشر يدعى أبيلار، هذا الرجل بشَّر العالم بحوار الثقافات وأسس شكلاً من أشكال الإنسانوية اعترافاً منه بالنواة الفكرية المشتركة بين الأديان السماوية الكبرى، وقد ذهب هذا الفيلسوف إلى أبعد من دور العبادة والخصوصيات، وسعى إلى وحدة الأديان الثلاثة الموحدة، إنه تأمل مبتكر في البحث عن العقلانية الحقيقية والتسامح المثمر، فهذا الفيلسوف هو الصورة الكبيرة لرجل الفكر العصري، الذي أراد أن يمحو من ذاكرة العالم فكرة التمييز، والتقوقع والانعزال، والتمحور حول فكرة مغلقة وعدوانية، لا تنبئ إلا عن أنانية فردية أو جماعية ضد آخر، هو في الأساس يشترك معنا في إدارة الحياة، ويقاسمنا رغيف العيش مهما اعتنقنا من ديانات، يبقى الدين الواحد الذي يجمعنا هو حب الإنسان للإنسان، ورغبة العيش في تصالح ضد السوداوية المقيتة وضد الأنانية البغيضة، وضد إقصاء الآخر.. والمبدأ الأساسي الذي آمن به أبيلار وضحى من أجله هو أن الإنسان في هذا الكون ليس مخلوقاً عرضياً وإنما هو في صميم منظومة الوجود وبالتالي فإن وجوده مكتسب من علاقته ككائن محوري بالآخر، ولا تثمر شجرة الحياة في غياب التصالح مع الآخر، وتزهر حقول الإنسانية إلا بوجود القواسم المشتركة التي منها تبنى الحضارات وينشأ التقدم، ولو عدنا إلى عصرنا الحديث وقرأنا المشحون بالحساسية القاتلة وما تشيعه الأفكار المتزمتة من حرائق في جسد المجتمعات إثر الاعتقاد بأن الحضارات في تصادم وليس في بناء متدرج، سنجد أن ما يفعله المتطرف المتشرنق في قوقعة الحقد هو في حد ذاته يعيد الإنسانية إلى عصور متخلفة أشعلت مبادئ الحقد والاستبداد والارتداد إلى مناطق داكنة أعمت البصائر والأبصار.. نتذكر أبيلار، ونقرأ المهد العالمي اليوم، ونجد الفارق الشاسع، ما بين الفكرة النيرة والفكرة القاتمة، التائهة في أحضان الحقد والكراهية، ونشعر أننا أمام عالم يتآكل، ويتلاشى لأنه غاص عميقاً في مستنقعات الإقصاء واعتمد فكرة الأنا والضد، ما يجعل الحضارة البشرية، وكأنها الخنفساء التي ما أن شعرت بالوهن، لجأت إلى ركن قصي وأعطت ظهرها للنمل كي ينخر عظمها وتنتهي إلى لاشيء.. وهكذا فالكارهون خنافس القرن الحادي والعشرين، يصنعون الموت بأنفسهم، ويحيلون البشرية إلى قارعة البؤس والرجس والنجس، والنحس وفاحشة المعضلات الكبرى.

الاتحاد