عائشة سلطان
في أحد أكثر المشاهد التي انغرست في ذاكرتي من ذلك الفيلم الأميركي المليئ بمشاهد الحركة والخيال المبالغ فيه، كان صانع الأسلحة في قبضة واحد من أمراء الحرب الأفغان في أحد الكهوف يتلقى أبشع أنواع التعذيب لإجباره على تلبية طلبه المتمثل في تصنيع صاروخ محدد، لكن الرجل يرفض لسبب ما.
وفي محاولة لإقناعه يعبر به خاطفوه ترسانة السلاح التي بحوزتهم، وهنا يقول الرجل الأفغاني لصانع الأسلحة: «الرؤساء الأمريكان كانوا متعاونين معنا، فيسروا لنا أمر الحصول على كل هذه الأسلحة التي تراها، ليس أمامك سوى أن تفعل ما نطلبه منك، وسوف نوفر لك كل المعدات المطلوبة، إضافة لمترجم مرافق.
العبارة التي قالها المترجم هي الأهم «هذا هو ميراثك، أنت من صنعت كل هذه الأسلحة وها هي تقف في المسافة بينك وبين موتك».
ميراثك، أو إرثك، حصيلة عمرك وأيامك، سواء كنت صانع أسلحة أو صانع أحذية، بائع زهور أو تاجر أسلحة، لا يغادر، لا يتركك، لا ينفصل عنك ولا يختلف، إنه تاريخك الذي سيقف ذات يوم بينك وبين نقطة فاصلة تحدد شكل أيامك القادمة، ما يجعل الأمور أشد صعوبة مما قد يتصور أي إنسان يظن أنه بإمكانه أن يتباهى أو يدعي، أما مسألة التفلت أو التبرؤ مما كان فقد تبدو مستحيلة في لحظة من اللحظات الحاسمة.
إن اللعب على معادلة الحرب وصناعة السلام في العالم تأتي من عمق هذه الجدلية، جدلية أن تبيع الموت في مكان وتطالب بالعدالة والسلام في مكان آخر معتقداً أن عيون العالم عمياء وذاكرته مثقوبة، ليس هنالك عمى من أي نوع سوى عمى الألوان ربما، ليس هناك ثقوب في أي مكان سوى ذلك الثقب الأسود المريع في فضاء الكون وثقب الأوزون الذي تسببت فيه واحدة من جدليات النفاق السياسي التي خربت البيئة في الوقت الذي ينادي أصحابها بخلاف ذلك.
هل يمكن لأحد أن يصدق تاجر سلاح؟ فما بالنا بصانع سلاح إذن؟ هل يمكنك أن تصدق سياسة الكيل بمكيالين؟ سياسة التناقض والذب التي بلا حدود، السياسة التي صنعت كل الكوارث التي نتخبط فيها ليل نهار في كل العالم؟ السياسة التي ولدت الحروب وصنعت الفوارق والجوع والفقر والانقسامات؟ لقد كان مشهد السلاح المكدس في الكهوف والرجال الأفغان المسلحين في كل مكان مرعباً بالفعل على الرغم من أننا نعلم أن هؤلاء ليسوا سوى جزء من مشهد الصراع الذي يدور في الشرق الأوسط.
إن الذين يصنعون ميراث المستقبل بخيوط الدم عليهم أن يعلموا أن هذا الإرث سيطاردهم وسيقف أمامهم يوماً ليفصل في لحظة دقيقة بينهم وبين الحياة.
– الاتحاد