د. فاطمة الصايغ
بحلول مايو 2014 يكون مجلس التعاون لدول الخليج العربية قد دخل عامه الرابع والثلاثين. خلال عقوده الثلاثة الماضية دار جدل كبير سواء في داخل دول المجلس أو خارجها تتعلق بمدى نجاح المجلس في تحقيق الأهداف التي من أجلها أنشئ.
الجدل دار كذلك حول مدى نجاح هذه المنظومة في تحقيق طموحات شعوب الخليج. ماهية التحديات المستقبلية التي تواجه المجلس في ظل التحولات الإقليمية والعربية والدولية الراهنة كانت أيضا من الأسئلة المطروحة.
ومنها ايضا كيفية إعادة الدماء لتجري من جديد في عروق المجلس بعد عدد كبير من الانتكاسات، وهل لا تزال دول الخليج مقتنعة بالأهداف التي من أجلها أنشئ المجلس أم أنها ترى فيه فقط استمرارية لفكرة دافع عنها المؤسسين الأوائل ولكنها فقدت أهميتها الآن في ظل تلك التحولات الجديدة التي تواجهها المنطقة بأسرها؟
بدأت فكرة مجلس التعاون قبل عقود طويلة كحلم جميل، ولكن الرواد الذين تبنوا فكرته دافعوا عنها بإيمان كبير واقتناع عميق بأهمية هذه المنظومة في تحقيق الأهداف الكبرى لدوله. معظم هؤلاء الرواد رحل عن دنيانا ولكن بعد أن رأى بأم عينيه المجلس وقد تحول إلى حقيقة واقعة.
فخلال العقود الماضية تبلور المجلس وتطور تطوراً كبيراً وإن اختلفت أهدافه عبر الحقب الزمنية المختلفة باختلاف الأخطار والتحديات التي تعرض لها وباختلاف رؤى وطموحات وتوجهات أعضائه.
ولكن الهدف الرئيس الذي من أجله أسس المجلس ظل ثابتاً لم يتغير. فقد أسس المجلس ليوفر لمنطقة الخليج صيغة أمنية وتعاونية وليلبي طموحات شعوب الخليج في وحدة تتحدث باسمهم وتدافع عن مصالحهم الكبرى.
خلال هذه الفترة أيضاً استطاع المجلس أن يحقق جزءاً مهماً من أهدافه خاصة في المجالات الاقتصادية والأمنية وتبادل المعلومات ولكنه لم يستطع الوصول إلى الهدف الرئيس الذي يحلم به أو تحلم به شعوب المجلس الا وهو الوحدة على الرغم من ايمان الجميع بأن ما يجمعهم أكبر بكثير مما يجمع المنظومات الدولية الأخرى كالاتحاد الأوروبي مثلاً.
وبدأ الجدل يدور حول أهميته. البعض يشكك في قدرة المجلس بأن يلعب دوراً مؤثراً في حل الخلافات الخليجية الخليجية، والبعض الآخر لا يزال يحذوه الأمل في أن يستطيع المجلس يوماً ما تحقيق التقارب الذي تستحقه دوله وأن يكون قادراً على تجاوز الخلافات التي تطفو على السطح بين الفينة والأخرى.
البعض يتساءل حول مدى جدية بعض أعضائه ورغبتهم الحقيقة في إنجاح مساعي المجلس وصولا إلى تحقيق الأهداف التي أنشئ من أجلها، والبعض الآخر يحذوه القلق تجاه مستقبل تلك المنظومة في ظل الخلافات المتزايدة واختلاف الرؤى والتوجهات بين دوله.
فمنذ التطورات التي شهدتها المنطقة العربية تجددت فكرة الانتقال من الصيغة التعاونية إلى الصيغة الوحدوية نظراً لما شهدته المنطقة العربية عموماً ومنطقة الخليج خصوصاً من أحداث وتوجهات وتحولات دفعت العاهل السعودي في ديسمبر عام 2011 إلى إطلاق الدعوة للانتقال من التعاون إلى الوحدة.
العلاقات مع إيران والتوجهات الإيرانية في المنطقة دفعت بعض حكام الخليج إلى التفكير جدياً في مقترح الوحدة. ولكن الصيغة الوحدوية تظل غير واضحة المعالم الأمر الذي خلق اختلاف في الرؤى حولها بين دول المجلس نفسه.
فالصيغة التي روٍج لها تتمحور حول صيغة شبيهة بالاتحاد الأوروبي بهياكله الاقتصادية والأمنية ولا تمس استقلال دوله. ومن شأن هذا المقترح أن يقلل من المقاومة للفكرة بين دول المجلس الست ويخرج إلى النور أنموذج جميل للوحدة الخليجية المنشودة.
ولكن حتى هذه الصيغة أصبحت صعبة التحول إلى واقع في ظل التخوفات الكبيرة من التحولات الإقليمية والدولية الأخيرة وفي ظل التقارب الإيراني الأميركي. فالبعض يرى إيران كمصدر تهديد والبعض الآخر يراها “كصديق” يمكن تدجينه بل والاستفادة منه وقت الحاجة.
هذه الآراء جعلت من الصعب بمكان تحويل فكرة التعاون إلى وحدة قريباً. ثلاثة عقود من استمرارية المجلس والآمال الكبار التي علقت عليه لم تمنع تلك الرؤى من أن تكون حجر عثرة في طريق الوحدة المنشودة.
ثلاثة عقود تغيرت المنطقة خلالها تماماً كما تغيرت طبيعة الاخطار التي تواجهها وإن ظلت بعض الأخطار هي نفسها مع تغير طفيف في اتجاه بوصلتها.
شيء واحد بالتأكيد لم يتغير الا وهو حلم شعوب الخليج في أن يروا منظومة خليجية قوية تحمى مصالحهم خاصة في ضوء التطورات الخطيرة التي شهدتها المنطقة في أعقاب الربيع العربي .
فقد ناقش المجلس فكرة ضم اعضاء جدد يبعدون آلاف الأميال عنه ولكنه اصطدم بعراقيل سياسية واقتصادية وحضارية عدة. وتبخرت بعضا من الاحلام والتمنيات ولكن بقت فكرة المجلس الأساسية الا وهي الدفاع عن أمنه ومصالحه المشتركة.
مجلس التعاون، سواء بصيغته التعاونية أو الوحدوية، سوف يواجه مستقبلاً مليئاً بالتحديات التي عليه التعامل معها ببراغماتية شديدة الوضوح.
أول تلك التحديات هي كونه جاء إلى الوجود ليعمل من خلال ثلاث منظومات: المنظومة العربية من خلال انتمائه للعالم العربي، والمنظومة الإقليمية من خلال التركيز على هويته الخليجية، والمنظومة العالمية من خلال كونه ينتمي لعالم اصبح الآن شديد التقارب جغرافياً.
لذا فعليه دوماً وضع هذه المنظومات في الاعتبار قبل اتخاذه أي أجراء. ثاني تلك التحديات هي قدرته على التماسك السياسي وفي نفس الوقت الحفاظ على استقلالية دوله الأعضاء.
إما ثالث تلك التحديات فهي الحفاظ على مصالح شعوبه وتنوعهم في ظل تيارات تسعى لتفكيك الصفوف عبر نبش الخلافات الفكرية والايدلوجية. فإن استطاع المجلس التماسك في وجه هذه التحديات فهذا يعني نجاحه وبقاءه.
-البيان