د. منصور أنور حبيب
موجود في داخلنا وبيننا.. في هدوئه يتغنى الشعراء، وفي زمجرته يغرق الأعداء. عكس لون السماء فازدانت به الأرض روعة وجمالًا، وفيه قال رب العزة والجلال: ((وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)) صدق الله العظيم.
يتكون كل كائن حي في معظمه من الماء، فجسم الإنسان مؤلف بنسبة 60% من الماء. وتحتاج كل الكائنات الحية إلى كميات من الماء للقيام بعملياتها الحيوية، وتساعد المحاليل المائية على تحليل العناصر الغذائية، وتحملها إلى كافة أجزاء جسم الكائن الحي. ومن خلال عمليات كيميائية، يحول الكائن الحي العناصر الغذائية إلى طاقة أو إلى مواد لازمة لنموه أو إصلاح ما تلف منها، وتتم هذه التفاعلات في وسط محلول مائي.. وأخيراً فإن الكائن الحي يحتاج إلى الماء للتخلص من الفضلات.
عجيب أمر هذا السائل الزلال.. يقوم بمهام عديدة وعمليات معقدة، وهو لا يحتوي على أي سعرة حرارية! وعلى كل كائن حي أن يتناول الماء في حدود طبيعته، وإلا سيموت. فالإنسان يستطيع أن يبقى على قيد الحياة لمدة أسبوع واحد فقط بلا ماء، ويموت الإنسان إذا فقد جسمه أكثر من 20% من الماء. ويجب على الإنسان تناول حوالي 2.4 لتر من الماء يوميا، إما على هيئة ماء شرب أو مشروبات أخرى غير الماء، أو في الطعام الذي يتـناوله.
أهمية الماء لا تكمن فقط في الشرب، بل يستعمله الناس في أكثر من حاجتهم للبقاء أحياء؛ فهم يحتاجون الماء للتنظيف والطبخ والاستحمام والتخلص من الفضلات. ومن استخدامات الماء التي لا حصر لها، الزراعة والري، الصناعة، توليد الكهرباء، والكثير من النواحي الأخرى في الحياة.
احتياجات واقعية، لكنها تعتبر ضرباً من الخيال لملايين المنازل في آسيا وإفريقيا وأميركا الجنوبية، التي ليس فيها ماء جار. ويتعين على الناس هناك سحب الماء يدوياً من بئر القرية، أو حمله في جرار من البرك والأنهار البعيدة عن منازلهم.
كل ما تم ذكره من منافع للماء، يتحقق في حالة واحدة فقط، وهي عند وجود المياه النظيفة. فانعدام هذا الشرط وتلوث المياه نتيجة لسوء المرافق، كما يحدث في حالات انفجار مواسير الصرف الصحي واختلاط مخلفاتها بمصادر مياه الشرب، أو غسل الفواكه والخضروات بمياه المستنقعات، وعدم إحكام غلق خزانات المياه وتنظيفها بصفة منتظمة، تجعل من الماء مرتعا خصبا للجراثيم ومحطة تجمع للمواد السامة.. حينئذ يتحول الماء إلى قاتل يومي للزرع والبشر.
هنا سأذكر، في عجالة، بعض الأمراض الناتجة عن تلوث المياه. ففي مرض الكوليرا تقوم الجرثومة (البكتيريا) المسببة للمرض، بمهاجمة الأمعاء بتوحش. والنتيجة إسهال مستمر واستفراغ حاد وجفاف جسم مميت. وتحصل العدوى عن طريق تناول أطعمة وشرب مياه ملوثة بفضلات حيوانية وبشرية تحمل هذه الجرثومة. أما في حمى التيفوئيد.
والتي قد تتلف الجهاز العصبي، فتنتقل جرثومة المرض للفرد عند شربه ماء الوادي أو البئر المتواجدين قرب المراحيض ومصبات الفضلات، أو عند أكله خضروات تم سقيها بمياه ملوثة. ومن الجراثيم التي تصيب الإنسان عن طريق المياه، فيروس التهاب الكبد الوبائي «أ».
وهو شديد العدوى، حيث يصيب ما يقارب 1.4 مليون إنسان على مستوى العالم كل سنة. وتنتشر العدوى عند تلوث مياه الشرب بمياه الصرف الصحي، واستخدام هذه المياه للشرب أو لغسل الخضروات، وفي هذه الحالة ينتشر الفيروس في صورة وبائية تشمل مناطق بأكملها.
قائمة لا نهاية لها من الأمراض والأعراض يواجهها البشر، أمام تحدي نقص المياه غير النظيفة، إلى جانب العطش والجفاف. وجميعنا يعلم أن حوالي ثلاثة أرباع سطح الكرة الأرضية تغطيه المياه، ولكن أقل من 1% فقط من هذه الكمية صالحة للشرب، وتحتاج إلى معالجة قبل استخدامها بشكل آمن. تحد كبير وخصوصا للدول النامية.
من هذا المنطلق ارتأت دولة العطاء والجود أهمية هذا الأمر، ومضت الإمارات الحبيبة بتوجيهات قادتها الكرام في طريق الخير كعادتها، لتروي ظمأ العطاش وتزرع الأمل في نفوس الحيارى في شتى بقاع العالم، مع مبادرة «سقيا الإمارات». وقد أتى إطلاق هذه المبادرة الفاضلة من قبل صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، حفظه الله، والتي سيتم فيها توفير مياه الشرب لخمسة ملايين شخص عبر العالم، تزامنا مع شهر الخير والرحمة شهر رمضان الكريم. وبهذه المبادرة تؤكد بلادنا الحبيبة على عشقها اللامتناهي لفعل الخير، والحفاظ على أغلى مخلوق في الكون وهو الإنسان.
وكما قال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد: «أفضل الصدقة سقي الماء، وفي كل كبد رطبة أجر، وفي كل بقعة من العالم سنغرس غرساً للخير باسم الإمارات».