عائشة سلطان
في هذا الوقت من كل عام نتبعثر في جهات الأرض، بحثاً عن هواء وعن (براد)، تماماً كما كنا منذ عشرات السنين نرحل في الصيف وفي الشتاء، بحثاً عن الرزق والتجارة، وكأن الترحال قدرنا، وكأن الأسفار منهجنا، وكأن البحث عن الفردوس المفقود جين متغلغل في دمنا، لنا في كل وقت وحين سفر وغاية، نرتدي مذ خلقنا أحذية الريح ومعاطف الترحال ونذهب في كل الجهات، لا نكل ولا نمل، ورثنا لوثة السفر، ولعنة الجغرافيا وانحراف المناخ، كما ورثنا نعماً من الله لا تحصى ولا تعد، نحن أحفاد العربي الممشوق كرمح بلا ظل في هجير الصحراء وفي الليالي الحبلى بأحلام بلا نهاية، وكلما عبرنا أرضاً وجدنا بعض أهلنا هناك، فنغمض أعيننا ونتذكر حكمة السفر ومفاتيح المدن!
المدن التي نرحل إليها في كل الدنيا ترحل فينا قبل أن نحط رحالنا على أرضها، المدن بوابات ومداخل ومزاجات، أكثر تعقيداً من النساء وأشد بأساً من الجيوش، إذا رفضتك مدينة فكل أموالك ونفوذك ومحاولاتك لن تجدي نفعاً في إقناعها بك أو إقناعك بها، لأن مدينة ترفضك لا يمكنك سوى أن تبادلها الشعور بمثله، إلا إذا حكمت علاقتك بها أسباب تجعلك مضطراً لأن تتغاضى وتتنازل، حينما كنت في زيوريخ منذ عدة سنوات أيقنت منذ اللحظات الأولى التي أخذتني فيها قدماي للتسكع في أزقتها الضيقة تحت طقس مكفهر وماطر أنني لن أعود إليها مرة أخرى، وقد كان.
فمنذ قطعت رحلتي قبل نهايتها وودعت زيوريخ لم أعد إليها ولم أضطر يوماً لتذكرها، بحثت في أسباب نفوري من مدينة يعشقها كل من أعرفه فوجدت أنه في الحب لا مجال لتفسير ما لا يفسر!
باريس مدينة الأنوار، والأناقة، والثقافة والمتاحف والمقاهي والسهر، والكتاب والحكايات، مدينة الأسماء والجامعات والأخبار، مدينة بعدة أوجه وبتناقضات لا تنتهي، مدينة بألف قناع وألف قصة، مدينة المهاجرين من كل الدنيا، مدينة الأحلام واللافاييت والشانزليزيه وإيفل وهي مدينة الثورات والثائرين ومنظري الحقوق وكتاب العقد الاجتماعي ونظريات الفصل بين السلطات، وهي أيضاً مدينة نابوليون الذي قاد حملته لاحتلال الشرق مصطحباً علماءه ومطبعته ليخترق الأزهر الشريف بحوافر جياده، وليطبق على أنفاس الشرق زمناً وليكتب أحفاده بعد رحيله بسنوات تاريخ احتلال بشع في بلادنا، أما في باريس فقد قاد الطلاب في نهاية الستينيات مظاهرات ثورة دوى صداها في كل مكان.
هذا التناقض كان يسكنني وأنا أدخلها في صيف عام 2002، لاكتشف أن باريس مدينة لا تعقد علاقات حب مع السياح من النظرة الأولى، ثم أنها لا تقيم طقوس حب حقيقية في الطقس الحار وفي زحام الأجساد، باريس كسيدة رفيعة المقام تحتاج إلى طقوس أرستقراطية باذخة المستوى، لتبوح لك بأسرارها وتسمح لك بدخول إحدى بواباتها.
ولم يكن لدي وقت لكل ذلك فلم أعد إليها بعد ذلك العام أبداً!
أحببت واشنطن وترددت عليها طويلاً وكثيراً في زمن البراءة الأميركية، كان ذلك قبل ما عرف بتفجير برجي التجارة عام 2001، بعد هذا العام فقد الأميركان براءتهم وثقتهم بالعالم، تذكروا سابق عهدهم بالشراسة فمارسوها على أصولها ومنذ ذلك التاريخ لم تطأ قدماي تلك المقاطعة التي يحكم العالم من خلال كواليس بيتها الأبيض في شارع بنسلفانيا، وأحببت بروكسل وما زلت كما أحببت كل مدن النمسا ابتداء بعاصمتها فيينا الراشحة بالجمال والموسيقى.
أما عواصم العرب فلا أذكر أنني نفرت من أي منها.
الدم يحن.
يقول المثل!
– الاتحاد