تاج الدين عبد الحق

مضى عقدان على غياب أخي ومعلمي بدر عبد الحق. ِعقدٌ غفا فيه عقله، عندما لم يعد يحتمل الزيف والانتهازية، وعقدٌ تعب فيه قلبه، بعد أن أنهكه المرض وهده الزمن.

قبل الغياب الأخير بثلاث عقود، كان بدر قد ترك أبوظبي، بعد أن عمل في صحافتها الناشئة سنوات قليلة، كانت كفيلة بحفر اسمه في تاريخها كعلم من أعلامها، وفارسا من فرسانها.

كان الأدب هو البوابة التي عبر منها إلى الصحافة، حيث كان قد أصدر قبل انضمامه لأول جريدة يومية خاصة بالامارات مجموعة قصصية مشتركة ، تشكل اليوم جزءا من تاريخ القصة القصيرة في الاردن .

عندما التحقت به في أبوظبي أول مرة في بداية السبعينات، كان بدر رحمه الله ملء السمع والبصر، عرفني الناس، وتعرفوا علي عندما بدأت حياتي الصحفية شقيقا لبدر.

كان الأمر محبطا لشاب يطمح أن يؤكد ذاته، ويبني شخصيته المستقلة. فدفعني غروري، ورغبتي في ذات غير تابعة، ولا موسومة، أن أعمل في صحيفة أخرى، غير تلك التي كان شقيقي الراحل يعمل بها، لكن ظله وحضوره، كان طاغيا، لا في تلك الصحيفة فقط، بل في كل مراحل حياتي التالية، إذ ظل في معظم الأحيان بطاقتي التعريفية، بالرغم من تعدد الدروب، واختلاف المسالك. وتغير الأماكن، واستمر هذا الحضور حتى بعد ثماني سنوات على وفاته.

أسوق هذه المقدمة، أو هذا الاعتراف المتأخر، استباقا لكل من يرى في شهادتي، تزكية مجروحة، لمن قاسمته بطنا واحدة، وغربة واحدة، ومهنة واحدة.

فالذين عرفوا بدراً، عن قرب وعايشوا تجربته الصحفية، يعرفون أكثر من غيرهم، أنه كان من بين قلائل، لم يأخذوا من المهنة بقدر ما أعطوها. عاش في بلاط صاحبة الجلالة سنوات، كسفير فوق العادة للمحرومين، والمقهورين. نذر نفسه للدفاع عن قضايا وطنه وأمته. كان يغرد دائما خارج سرب الواقعيين، لا تنكرا للواقع أو هربا منه، بل لإن الواقعية في زمن الهزيمة، كانت تعبيرا عن الخيانة، وتجسيدا لها.

قبل بمغارم المهنة، ومتاعبها، ودفع مختارا، وعن طيب خاطر ضريبة لها، دون أن ينتظر مغانهما، أو يتمتع بسلطانها.عندما ترك أبوظبي في عام 1977، لم يكن يملك ثمن التذكرة التي يعود بها من حيث أتى.

في السنوات القليلة التي قضاها متنقلا بين الصحف القليلة التي كانت تصدر في ذلك الوقت، أو مراسلا لبعض الصحف العربية التي كانت تصدر في المهجر، لم يكُّوّن ثروة لكنه بنى اسما لامعا فتح له أبواب الصحافة الاردنية، التي تلقفته واحتفت به، كإضافة هامة لتاريخها، وعلما مهما من أعلامها.

في تجربته الطويلة مع الصحافة الاردنية، ظل شاهد عيان يراقب، ويتابع كل ماهو زائف، ويكشف كل ما هو باطل، إلى أن وقع شهيدا، حين جفت ينابيع عطائه، وذبلت زهرة عمره.

عندما توفي رحمه الله في مثل هذه الأيام من عام 2007، كنت في ألمانيا، برفقة وفد إماراتي يرأسه الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس دولة الامارات، ورئيس مجلس الوزراء وحاكم دبي، وكان ضمن الوفد الشيخ عبد الله بن زايد وزير الخارجية الاماراتي، لم أكن أظن أن الشيخ عبد الله، يعرف بدرا، وفوجئت به يترك الوفد ليتجه نحوي معزيا بعبارات تقدير، أنوء بحمل جميلها، وطيب معناها، إلى الآن.

أحسست عندها أن هذه اللفتة لم تكن تقديرا لي بقدر ما كانت تقديرا لبدر الذي ظل رغم هذه السنوات الطوال في ذاكرة أشخاص لم يعاصروه ولم يعايشوه. أدركت يومها كم كنت مخطئا وأنا أحاول الخروج من جلباب أخي الذي كان قادرا بعد كل هذه السنين، أن يمنحني الدفء، كلما ورد ذكره، وحيثما استعيدت سيرته.

اليوم عندما تمر الذكرى الثامنة لرحيل بدر، لا أتذكره كشقيق أو صديق، بل كقيمة إنسانية، و مهنية، أكدت التيمة التي طالما استعملها في كتاباته ومقالاته وكتبه، وهي أن الزبد يذهب جفاء وأن ما ينفع الناس هو ما يمكث في الأرض وما تتذكره الأجيال جيلا بعد جيل.

**رئيس تحرير شبكة إرم الاخبارية