د. فاطمة الصايغ
تسعى كل الدول إلى تضمين القيم التي تنوي زرعها في عقلية الأجيال الصاعدة ضمن خططها الدراسية وفي المناهج الدراسية التي تقدمها للدارسين في مؤسساتها العلمية حتى تضمن بناء جيل سليم. ولا شك أن المناهج الدراسية هي الأكثر قدرة على إيصال الرسائل والدلالات الاجتماعية والتعريف بها وبالقيم الأصيلة التي يحفل بها المجتمع وذلك لأنها تصل إلى عقول المتلقين بصورة سلسة ودون عوائق متى ما قام القائمون عليها بتقديمها بالطريقة الأمثل وبالشكل الذي يسهل تغلغلها إلى القلوب قبل العقول.
ومنذ استقلالها عمدت دول الخليج إلى إظهار الاهتمام الكبير بقضية المناهج الدراسية الخاصة بها بعد أن كانت قبل استقلالها تستخدم مناهج تابعة لدول أخرى كمصر وسوريا والأردن. وقد ضمنت دول الخليج مناهجها الدراسية قيمها المستمدة من تراثها العربي الإسلامي ومن قيم المجتمع المحلي القائم على الفزعة والتكاتف والكرم وغوث المحتاج والعمل الجاد وطاعة ولي الأمر وغيرها من القيم التي تزخر بها هذه المجتمعات البدوية. وبتطور مجتمعات الخليج تطور الاهتمام الرسمي بالمناهج الدراسية لتواكب مسيرة مجتمعات الخليج نحو العالمية.
وقد تم تغير المناهج وتضمينها القيم الجديدة المستمدة من متغيرات العصر ومن قيم العولمة والمواطنة العالمية والهوية الوطنية والثقافية، وبمعنى أصح ليتم بناء جسور بين مجتمعات الخليج القديمة والمعاصرة. ومن عمل في الميدان التربوي فترة من الزمن أو من عاصر المتغيرات التي طرأت على المناهج يمكنه بسهولة ملاحظة الفرق ومدى التغير الكبير الذي طرأ على المناهج.
فقد أردنا لمناهجنا أن تواكب العصر وأن لا تقل مواكبة وجودة وإخراجاً عن مناهج البلدان المتقدمة. ولكن هل نجحت مناهجنا في إيصال رسالة الوسطية وقيم التسامح الاجتماعي أم أنها ما زالت متهمة بأنها السبب وراء جرعة التطرف وعدم تقبل الآخر؟ هل استطاعت مناهجنا الموازنة بين الرسائل الاجتماعية المتعددة التي نود إيصالها إلى النشء وبين قيم العولمة ومتغيرات العصر الحديث؟ هل استطعنا فعلاً من خلال مناهجنا أن نحصن أبناءنا ضد قيم التطرف والعنف وأن نقيهم شرار ثورة المعلومات المتطايرة وطفرة التقنيات السريعة أم أننا قدمنا للأجيال الجديدة جرعة قوية جداً أعطت نتائج سلبية؟ أحد أهم التوصيات التي وجهت لدول الخليج بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر بأن تراجع مناهجها الدراسية لأنها السبب في موجة التطرف وكراهية الآخر وعدم تقبل الاختلاف معه.
وعلى الرغم من معرفتنا الشديدة بدوافع تلك التوصيات وخلفياتها السياسية إلا أنها لم تلغِ حقيقة أن مناهجنا الدراسية كانت بحاجة ماسة إلى التطوير حتى تواكب التطور الحاصل في مؤسسات الدولة الأخرى خاصة بعد أن ظهرت بوادر تدل وبصورة كبيرة على ضرورة هذا التغير. فعلاوة على البطالة بين صفوف الشباب فقد ظهرت بينهم قيم تدعو إلى التعصب ورفض الاعتراف بالآخر، كما ظهرت بينهم تيارات تدعو إلى الانغلاق على الذات وترفض التحلي بقيم المجتمع القائمة على التسامح وتقبل الاختلاف.
وعزا الكثيرون ظهور هذه الروح إلى الجرعة القوية التي تلقوها في المدارس. وعلى الرغم من أن معظم دول الخليج قد تبنت عملية جذرية لتطوير مناهجها الدراسية إلا أن عملية التطوير تلك لم تثمر نتائج قوية بعد وذلك لأن عملية التنشئة والتغير تستغرق وقتاً طويلاً.
فبالتأكيد أن مناهجنا الدراسية هي عصب العملية التعليمية، ومن المعروف أن العملية التعليمية عادة ما تقوم على ثلاثة محاور رئيسة لكي تؤدي نتائج جيدة: فهي تحتاج إلى منهاج جيد وإلى مدرس جيد وإلى بيئة تعليمية جيدة ومحفزة. ومتى ما تواجدت هذه المحاور الثلاثة أعطت العملية التعليمية نتائج جيدة.
ولكن هل يمكن القول إن العملية التعليمية في مجتمعاتنا تفتقد ركناً من الأركان السابقة؟ في الواقع لا يمكن ادعاء بأن العملية التعليمية لدينا ناقصة ولكن يمكن القول إن في مجتمعات الخليج لا يمكن الركون إلى التعليم وحده لبناء شخصية الإنسان. فهناك التنشئة الأسرية المحافظة التي تشيد بالطاعة التامة سواء لولي الأمر أو للمعلم الذي رفعته لمقام «الرسول» وهناك التنشئة الدينية والتي تدعو إلى الامتثال لتعاليم الدين والمجتمع وهناك الكثير من القيم الاجتماعية التي تخلق في الكثير من الأحيان متناقضات في عقول النشء إذا لم نحسن توظيفها والاستفادة منها.
إذاً فالمناهج الدراسية وعلى الرغم من دورها الكبير في غرس القيم إلا أنها ليست المسؤول الوحيد عن ذلك التطرف والغلو ورفض الآخر. فالمنابر الثقافية والمؤسسات الدينية لعبت دوراً مهماً في التأثير على فكر الشباب. فجزء كبير مما حصل تتحمل وزره التنشئة الاجتماعية والمؤسسات المجتمعية وأضافت له طفرة التقنيات هالة كبيرة رفعته إلى مقام «التيار» أو «التنظيم».
– البيان