عائشة سلطان
كانت الحافلة تعبر شوارع مدينة ميلانو باتجاه فندق الإقامة، بينما المشاهد تتوالى سريعا خلف زجاج النافذة، كنت أدقق في التفاصيل كمن يبحث عن شيء ما، هي زيارتي الأولى للمدينة، لكن أحسست كأنني كنت هنا ذات يوم! أنظر إلى أسوار المنازل، إلى تلك النباتات المتطلعة للشمس وهي تتسلق الجدران والأسوار الحديدية، ملامح النساء العابرات بلا مبالاة، والرجال الذين يقودون دراجاتهم الهوائية بكامل أناقتهم، أحسست بروح المتوسط تفوح في كل التفاصيل، أحسست كأنني في بيروت أو جبيل أو الإسكندرية وطنجة أو أثينا وقد زرتها جميعا!
المدن كالنساء لهن ذات الروح الطاغية والملامح المشعة نفسها حين ينتمين لجغرافيا وتاريخ واحد، تاريخ المتوسط الذي لا يخفى على أحد، مدن المتوسط مدن متمردة ممتدة، عميقة وبها كل شيء كالبحر تماما مستلقية طيلة الزمن على الشطآن ترقب تقلبات التاريخ ومستعدة للغزو دائما، مدن متوغلة في التاريخ حتى قمة رأسها، مبعثرة بين الشعوب ومتفرق دمها بين الحضارات، لكنك لابد ان تميز فيها ذلك النزق الذي لا يغيب عن روح اهلها وحبهم للمال والحياة!
في اليوم التالي لم أتوقع أن تفاجئني ميلانو بهذه الطريقة، كنا بالكاد ننهي جولتنا الإعلامية في معرض إكسبو، حين جاءتني هذه الرسالة «أنا وصلت.. أنا في ميلانو» وبالفعل كانت تنتظرني في «الجاليريا» كانت صديقتي القادمة من بيروت مرورا بمدينة نابولي، ألم أقل لكم إن سكان المتوسط لا تغادرهم روح المغامرة وحب الحياة، وهل أجمل من صديق يقطع مدنا ليلقاك لمدة ساعة يحتسي معك فنجان قهوة على مقهى صغير ثم يقفل راجعا إلى حيث أتى بعد أن يترك في قلبك شوق سفر بلا حدود!
قد تعكر شمس ميلان مزاجك، وقد يعكره بائعو العصي السيلفي والورد وحبات الذرة وربطات المعاصم.. الذين يتسكعون في ساحة الدومو الشهيرة، ملحين ببضاعتهم على السياح بشكل مزعج جداً، بينما متسولو المدينة من الطليان يسترزقون بعزف الموسيقى مثلا أو برفع لافتة صغيرة دون أن يضايقوك ولو بنظرة!
ميلانو مدينة تسوق بامتياز، فهي ليست فلورنسا وليست روما، إنها بلاد المال والتجارة والطعام اللذيذ، والجاليريا هو عنوان ذلك كله، انه بناء بالغ الروعة والتصميم افتتح عام 1867 متقدماً على برج إيفل في باريس بعشرين عاما، ولا يزال حتى اليوم مصنفا من بين أجمل المباني في العالم، أرضه مرصعة بأحجار الموزاييك ويتوسطها رسم لعجل شهير يقول أهالي المدينة إنه يجلب الثروة والحظ، الثروة التي يجيدون الحصول عليها لإنفاقها على نوعية حياة باذخة وأنيقة يعرفون كيف يستمتعون بها!
– الاتحاد