تظهر القراءة الدقيقة لقرارات وزارة العمل، التي أعلنت أول من أمس، ويبدأ تطبيقها اعتباراً من مطلع العام المقبل، أن ملف العمالة الأجنبية في دولة الإمارات بصدد تغييرات جذرية هيكلية وبنيوية عميقة، تطال مفاصل هذا الملف، ومن شأنها التأسيس لنمط جديد في العلاقة بين طرفي المعادلة، العامل وصاحب العمل، أساسها الوضوح والصراحة، وركنها الأهم حرية التنقل للعمالة من دون قيود تختلف عن تلك الموجودة في دول العالم المتقدم. ولعل أهمية هذه القرارات تنبع من كونها ستقضي على جملة من السلبيات والممارسات، التي شكلت موضوعات للنقد من منظمات أجنبية معنية بحقوق الإنسان على مدى سنوات، على الرغم من أن معظم تلك السلبيات كانت ناتجة عن ممارسات لا علاقة للحكومة بها، ومع ذلك فإن مؤسسات الدولة، وانطلاقاً من الإحساس بالمسؤولية الأخلاقية تجاه كل ما يمسّ العمالة الأجنبية، تضع بهذه القرارات حداً لما وصف لممارسات «الكفيل المتعسف»، إذ لن تجد لها مكاناً في الفترة المقبلة، وسيعتبر بموجبها تحكم صاحب العمل بالعامل وبالعكس، أو أن يقرر صاحب العمل بمفرده مصير العامل وإخضاعه لشروطه، وإلا أبعد من الدولة، أو أن يضلل صاحب وكالة توظيف خارج الدولة عاملاً بإيهامه بامتيازات غير موجودة، صارت كلها من ممارسات الماضي. فما هي أبرز السلبيات التي شابت سوق العمل، وكيف تعاطت القرارات الجديدة معها؟
القرار الأول، وهو ما يعرف بقرار العمل بنماذج العقود، يعني أنّ العامل سواء كان داخل الدولة أو خارجها لن يتمكن من العمل في الدولة، ما لم يتلقَّ عرضاً محدداً وواضحاً، وما لم يوقع على العرض، الذي يستند إلى نموذج أعدته وزارة العمل، يشتمل على جميع الحقوق والالتزامات التي تكون لكل طرفٍ من طرفي العقد، بحيث يطلع عليه العامل، ويوقع عليه، وسيكون مكتوباً باللغة التي يفهمها العامل، إذ ستترجم تلك العروض إلى 10 لغات أجنبية شائعة في سوق العمل، بالإضافة إلى اللغة العربية، والعامل الذي يوقع على العرض لن يتسلم عمله إلا بعد التوقيع على عقد العمل الذي يكون مطابقاً،

والغاية من هذا القرار أن يكون العامل على علم مسبق بتفاصيل ما له وما عليه، وما يتضمنه من تأمين ذلك العامل من أي مفاجأة في ظروف التعاقد عند وصوله للدولة، إضافة إلى إغلاق الباب أمام ما قد يتضمن مزاعم غير حقيقية من بعض العمال، من أنّ عقود العمل تختلف عن عروض العمل التي طرحت عليهم من قبل، وعليه لن يأتي عامل ليقول إنه تلقى عرضاً براتب 4000 درهم، وفوجئ بأن الشركة ستعطيه فقط 2000 على سبيل المثال.

وسيتصدى هذا القرار، على نحو خاص، لممارسة لممارسات وكالات التوظيف خارج الدولة، التي تبلغ العامل بامتيازات عدة، وأجور غير صحيحة، ثم يفاجأ عند قدومه إلى الدولة بأن تلك الامتيازات غير موجودة، ولا يخفى على كثيرين أن هذا التضليل الذي مارسته بعض الوكالات في السابق تسبب في قيام العمال بإضرابات عن العمل واحتجاجات، أخذ بعضها طابعاً صدامياً.

ويقوم القرار الثاني، وهو الخاص بشروط وضوابط إنهاء علاقة العمل، على فكرة أنّ عقد العمل، شأنه شأن كل العقود، يقوم على توافق الإرادة بين طرفيه، وأن استمرار هذه العلاقة مرهون بقيام كل طرف بأداء التزاماته على أكمل وجه، وأنّ كل من يخرج على أحكام تلك العلاقة التعاقدية يجب أن يدفع ثمن هذا الخروج. ومثل هذه القاعدة لا تختلف عن تلك المطبقة في أكثر الدول تقدماً في العالم.

وبالتالي عندما يرتبط العامل بعقد محدد المدة، عليه أن يوفي بالتزاماته العقدية تماماً، حتى نهاية مدة العقد التي لا يجوز أنْ تزيد على عامين، طبقاً لما استقر عليه العمل بالوزارة، وإذا أراد طرفا العقد، صاحب العمل والعامل، بالتوافق بينهما إنهاء هذا العقد بينهما أثناء سريانه، فلا مانع من ذلك، وهنا يعود أمر العامل إلى نطاق اختصاص الجهات الرسمية في منحه أو عدم منحه تصريح عمل جديداً، وفقاً لما تتوافر لديه من اشتراطات منح هذا التصريح، كما أن كل طرف من أطراف العقد يستطيع إنهاءه أثناء سريانه، وذلك في أوقات محددة، ووفقاً لشروط معينة قوامها إخطار الطرف الآخر قبل مدة كافية، واستمرارية قيام علاقة العمل طوال مدة الإخطار، ودفع مقابل لهذا الإنهاء.

وفي جميع الأحوال، تبقى هناك فكرة رئيسة حاكمة للعقود محددة المدة، وهي ضرورة الالتزام بمدة العقد التي يجب ألا تزيد على عامين في جميع الأحوال، وفي الأصل لا يجوز للعامل ترك العمل لدى صاحب العمل قبل قضاء هذه المدة، وإلاَّ جاز للوزارة أنْ تمتنع عن منحه تصريح عمل جديداً إلا بعد مضي سنة على الأقل من تاريخ مغادرته للدولة، طالما كان صاحب العمل قائماً بكل التزاماته التي حددتها العلاقة التعاقدية.

ويجوز لصاحب العمل والعامل بالتراضي بينهما إنهاء علاقة العمل في أي وقت، لكن بشرط استيفاء بعض العمال مدة لا تقل عن ستة أشهر لدى صاحب العمل الذي استقدمه من الخارج، وذلك بالنسبة لفئات معينة من العمال حتى لا تفتح السوق للمتاجرة بالتأشيرات أمام العمال الذين يمثلون ما لا يقل عن 80% من العمال الأجانب بالدولة.

إن وجه الاختلاف الرئيس بين النظامين الجديد والقائم حالياً هو أنَ النظام الحالي يجعل العامل غير قادر على ترك العمل في العقد محدد المدة، لمدد تصل إلى سنوات عديدة لدى صاحب العمل، أما في أما النظام الجديد فإنه مع إقرار الوزارة التام بأنَّ صاحب العمل الذي استعان لأول مرة بالعامل لمدة معينة، أقصاها عامان، يجب أن نوفر له عوامل استقرار العلاقة طوال هذه المدة، أما ما يجاوز ذلك فإن لكل طرف أنْ يتحلل من علاقته مع الطرف الآخر، وفقاً لشروط وضوابط معينة.

هذا عن العقود محددة المدة، أما العقود غير المحددة المدة فهذه يستطيع الطرفان الاتفاق على إنهائها في أي وقت، كما يستطيع كل طرف أنْ ينهيها بإرادته المنفردة، طالما أنذر الطرف الآخر بذلك، وظل مستمراً في علاقة العمل طوال فترة الإنذار، وذلك كله مع التزام شرائح عمالية بالعمل لدى صاحب العمل الذي استقدمها من الخارج لفترة معينة، كما سبق أن أوضحنا.

أما عن القرار الثالث، وهو خاص بمدى جواز منح العامل تصريح عمل جديداً للعمل في الدولة، بعد أن تنتهي علاقة عمله بصاحب العمل انتهاء فعلياً، أو انتهاء حكمياً، وهنا نتحدث عن الحالات التي يثبت بالقطع تقاعس صاحب العمل عن الوفاء بالتزاماته التعاقدية، فهذا القرار يجسد حقيقة أنّه بانتهاء علاقة العمل يعود العامل إلى نطاق اختصاص سلطات الدولة في منحه تصريح عمل جديداً، أو منعه من هذا التصريح في ضوء ما تحدده النظم القانونية من ضوابط وشروط. ودون الدخول في تفصيلات، فإنه يُمكن إجمالاً رد الحالات التي تُعطى فيها تصاريح عمل جديدة إلى مجموعة ضوابط:

أولها: أنْ تكون علاقة العمل قد انتهت بانتهاء مدتها، أو بالتراضي بين الطرفين، أو بإرادة أحد الطرفين إذا أبدى هذه الإرادة في فترة محددة، والتزم بالضوابط القانونية التي قررتها الوزارة لضمان عدم المفاجأة في إنهاء العقد للطرف الآخر، وإعطاؤه فرصة لترتيب أوضاعه في العمل ومنحه مقابل هذا الإنهاء.

ثانيها: لا تصريح عمل جديداً لمن لا يحترم التزاماته بالعمل، خلال المدة التي حددها العقد، أو لم يتبع الإجراءات القانونية في طلب إنهاء العقد، حتى لا تحدث ارتباكات في أعمال المنشآت، وحتى يتدبر أصحاب العمل أمرهم بتوفير العامل البديل، وفي جميع الأحوال أكدت الوزارة مبدأ التعويض في الحالات التي تُجيز ذلك، ويظل باب القضاء مفتوحاً للطلبات الأكثر.

الإمارات، وكما بات معلوماً للعالم، تقدم الفرص الاقتصادية للمقيمين من نحو 200 جنسية مختلفة، وهي أحد أكبر متلقي العمالة الأجنبية، وبناء على ذلك فإن الدولة تعي أن وجود هذا العدد من العمال الأجانب في الإمارات، لابد أن يخلف حالات فردية من الإساءة، لا تعكس الوضع العام الذي هو في صالح الغالبية العظمى من أرباب العمل والعمال، كما أن الإمارات التي تعد دولة حديثة، وتعاملت مع طفرة شاملة في جميع قطاعاتها الحيوية، نتجت عنها ممارسات ملتبسة تجاه ملف العمالة، ظلت تقر على الدوام بأن تشريعاتها في هذا الإطار تخضع للتحديث المستمر، التزاماً منها بكل المواثيق والأعراف الدولية التي تولي العمال أهمية استثنائية. فجاءت القرارات الجديدة، وهي تنظيمية في مبناها وشكلها وأهدافها، في وقت مناسب، تحتاج معه الدولة تنظيم سوق العمل وضبطه والسيطرة عليه.

الامارات اليوم