عائشة سلطان

أتذكر كلمات العقاد حين سئل عن العلم، فقال: «نحن نقرأ لنبتعد عن نقطة الجهل، لا لنصل إلى نقطة العلم»، هل نسمي ذلك تواضعاً من العقاد، لا يهم ما نسميه، المهم حين نقرأه كيف نوظفه، كيف تستقبله حواسنا وخلايا عقلنا، فالعقاد لم يكن يقصد أن يتواضع، فالتواضع سمة وسلوك أخلاقي لا يعاني الإنسان ليظهر به، إنه يظهر بشكل تلقائي في سلوكنا، لذلك فالعقاد كان يقصد ما قاله فعلاً، لكن الأكثر تأثيراً بالنسبة لي حين تأملت في كلامه عن الكتب؟ لماذا تقرأ؟ فأجاب: «لأن حياة واحدة لا تكفيني، الكتب حيوات، ونحن نعيشها كلها حين نقرأ!».

ذات مرة قرأت هذه الحادثة، احتفظت بها، لأنها لخصت لي كلام الأديب عباس العقاد على وجه الدقة، يقول الكاتب: «حضرت ورشة عمل عن اللغة والكلمة، وتأثيرها في الناس، وذلك في مركز مؤهل للتنمية البشرية، توزعنا مجاميع لكي نتبادل التجارب ثم الآراء على حسب الموقف، أو السؤال الذي تطلبه المحاضرة.. لفت نظري أن مجموعتي مكونة من رجل في منتصف الخمسين من عمره، يعمل كحمال بضائع، وليس لديه أي مؤهلات علمية تمكنه من العمل في وضع أفضل نتيجة ظروف يمر بها، مع ذلك يرى أن استثماره الكبير في الحياة هو الإحسان للناس بالابتسامة والكلمة الطيبة، فهو يحاول كلما واتته الفرصة أن يشترك في مثل هذه المحاضرات، خاصة إذا كانت مجانية»، ليتعلم كيف ينتقي كلامه وكيف يترجم ويرتب ما يدور في عقله من أفكار.

حين نقرأ مثل هذه الحكايات، فإننا نتخيل هذا الرجل الحمال تحديداً دون غيره من حضور الورشة، نتخيل ظروفه ومحاولته المستميتة ليكون صالحاً للتعامل مع الناس، هذا الوعي الاجتماعي اكتسبه من الورش التي يحضرها، لكنه بلا شك قرأ كتباً كثيرة ليصل إلى تكوين هذا العقل، بقي ألا نشعر نحن بتلك الأحاسيس البغيضة تجاه حمال يشاركنا الورشة، فربما قرأ كتباً أكثر منا بكثير، وعليه فقد ابتعد عن نقطة الجهل أكثر مما فعلنا نحن!

نتحرك وسط عالم كبير ومتنوع وشديد التناقض أيضاً، لكن الناس ينجحون في نهاية اليوم في إثبات قدرتهم على التعامل بعضهم مع بعض بأقل قدر من الصدام، لأن العلم الذي تلقوه والثقافة التي تتسع وتنتشر في المجتمع يساعدانهم على القفز على الخلافات والتناقضات، بالرغم من الصعوبة التي يواجهونها، لنتخيل لو أن حياتنا بلا كتب وبلا تواضع وبلا رحمة وبلا قراءة، كيف كنا قطعنا هذه السنوات؟ لنتخيل أننا آمنا بأن شكل حياتنا الذي نعيشه هو الأفضل، وأن ما نحن عليه هو الخير البحت، كيف كنا وصلنا إلى ما نحن عليه الآن؟ هذا ما لا ينتبه إليه معظمنا، إن ما نحن عليه هو جهد إنساني مشترك، اجتمع كثيرون عبر زمن طويل لينتجوه ولنعيشه نحن الآن، إن «حياة واحدة» لا تنتج ما نحن فيه، لذلك علينا أن نقرأ كثيراً، لنبتعد عن نقطة الجهل!

البيان