عائشة سلطان
جلس ثلاثتهم على الطاولة التي بجواري، أخرجوا هواتفهم النقالة من جيوبهم ووضعوها على مرمى نظرة منهم، وكلما أظلمت الشاشات تلمّستها الأصابع خفية، كأن ظلام الشاشات يحيط بأصحابها، فتحسّهم يعيشون خوفاً من نوع ما، جلسوا ثلاثتهم بضجيج وافر، وفجأة خيّم الصمت وأصبح كل منهم منفصلاً في عالمه، عيناه وأصابع يديه وقلبه تتحرك بتناغم كامل وانسجام عجيب مع الهاتف، لا أحد من الثلاثة أبدى أي استياء أو اعتراض، لأنهم جميعهم في «الهوى سوا»، ومن منطلق أن احترام رغبة الآخرين نوع من الإتيكيت الجديد، كما قال لي أحدهم!
لماذا خرجوا معاً إذاً؟ سألت أحدهم عن هذا، أجابني بطريقة تدل على استيائه: السؤال غير وارد، فهذا ما يفعله كل الناس في كل الدنيا. في كل الدنيا؟ (سألته)، قال بثقة عجيبة: الناس المتطورون على الأقل! سألته: هل تعني أن الناس الذين يعترضون على هذا السلوك غير متطورين؟ أجاب: أظن نعم، هؤلاء في معظمهم سلبيون وانتقاديون ومنغلقون ولا يرحبون بالتغيير، التغيير سنّة الحياة!
لقد اختلف مجرى النهر تماماً، أقصد نهر الحديث، كنا في منطقة يمكن النقاش فيها والاتفاق أو الاختلاف، ثم فجأة دخلنا في نفق الأحكام الجاهزة أو التعميمات الخاطئة، أن تسمع كل يوم محاضرة أو موعظة أو تقرأ كتاباً أو تشاهد فيلماً عن الإيجابية والطاقة وتطوير الذات لا يعني أن تطبق نظرية التفكير الإيجابي على كل شيء تصادفه، وأن تمشي في طريقك إلى العمل أو عودتك مساءً إلى المنزل لا يعني أن الشخص الذاهب إلى المتحف سلبي ومصاب بالنوستالجيا أو الحنين المرضي إلى الماضي، والذي يتابع الأخبار لا يعني تصرفه أنه يستدعي الطاقة السلبية لمن حوله أو أنه شخص منغلق، فقد يكون أكثر معرفة وانفتاحاً منك، والأم التي تحاسب ابنها بسبب رسوبه ليست نكدية وانتقادية!
هذا العقل الذي يلجأ صاحبه إلى التطبيق الخاطئ للقواعد يشبه العقل الذي يؤمن بنظرية تقديس الأشخاص، فطالما أن فلاناً شيخ جليل مثلاً، فلا بد أن يكون كل كلام يصدر عنه صحيح ولا يحتمل الخطأ أو النقد، وهذه طامة كبرى جعلت الناس في عالمنا العربي والإسلامي يقعون في أزمة الخلط بين الشخص وما يصدر عنه من أفعال، متقبلين ومدافعين بشراسة عن أفعال تبدو خاطئة بلا أدنى شك، لأنها صدرت عن فلان فقط!
وأن تكون مواكباً لعصرك ومعطياته أو مؤمناً بما تؤمن به الجماعة ضماناً للقبول والانسجام فذلك شأنك واختيارك، لكن تطبيق الفكرة على الآخرين بشكل تعميمي وغير واعٍ شأن يخص الآخرين ولا يخصّك وحدك، لأنك بذلك تمنحهم تصنيفات خاطئة وظالمة، وتعكّر الجو العام للمجتمع، وتنشر ثقافة ضحلة وهزيلة تعمّ الجميع!
البيان