تنذر إجراءات السلطات التركية، المقرونة بتصريحات الطبقة الحاكمة وعلى رأسها رجب طيب أردوغان، بضرب المشهد الديمقراطي الذي رسمته عوامل إحباط محاولة الانقلاب الأخيرة في البلاد.
واستندت عملية إحباط الانقلاب إلى “تحركات ديمقراطية” عدة، بالإضافة طبعا إلى عوامل أخرى تجسدت بنجاح حزب العدالة والتنمية الحاكم خلال السنوات الماضية بالسيطرة على الأجهزة الأمنية.

وعلى صعيد “العوامل السلطوية”، بدا واضحا أن الشرطة والقوات الأمنية وأجهزة الاستخبارات لعبت دورا هاما في تطويق الانقلاب، الذي قادته مجموعة صغيرة من الجيش، ليل الجمعة السبت.

يضاف إلى ذلك، فشل المحاولة التي استهدفت أردوغان في منتجع بمرمريس، وعدم وقوف الجيش كمؤسسة وراء المجموعة الانقلابية، التي نشرت دباباتها في المدن الرئيسية كالعاصمة أنقرة وإسطنبول.

فالرئيس التركي نجح في الخروج سالما من المنتجع قبل بدء الهجوم بعد تلقي تحذيرات من المخابرات حسب ما ذكرت مصادر أمنية، كما قصفت طائرات تابعة للجيش دبابات ومروحيات تابعة للانقلابيين.

إلا أن العامل الأبرز الذي أطاح بالانقلاب العسكري “النَفس المدني” الذي تجسد بخروج الآلاف إلى الشارع غير أبهين بسلاح المتمردين، وذلك دعما للمسار الديمقراطي أكثر منه لدعم الطبقة الحاكمة نفسها.

ودفعت الخشية من عودة مسلسل الانقلابات التي شهدته تركيا منذ 1960 إلى 1980، المدنيين إلى التصدي “بالصدور العارية” للدبابات وللمتمردين الذي تحلى بعضهم بوطنية منعتهم من إطلاق الرصاص على العزل.

والحراك المدني المبني على رفض عسكرة النظام، تغاضى عن الممارسات القمعية لحزب العدالة والتنمية منذ استلامه السلطة قبل أكثر من عقد، والتف حول دعم “شرعية الصندوق” والدستور والقوانين.

ولا شك أن قسم كبير من الذين نزلوا للشارع رفضا للانقلاب، موالي للحزب الحاكم والرئيس التركي الذي نشد الدعم الشعبي عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تعوّد على انتقادها والتضييق عليها.

وأردوغان أطل، بعيد بدء الانقلاب، على وسائل الإعلام المرئي عبر تطبيق فيس تايم، ولجأ مناصروه وأعضاء من الحزب الحاكم وحكومة بن علي يلدريم لمواقع التواصل الاجتماعي الأخرى لحث الأتراك للنزول للشوارع.

وبناء عليه، فقد كانت “العوامل الديمقراطية” التي أفشلت الانقلاب كالمظاهرات المعبرة عن تمسك الأتراك بالديمقراطية، والاستعانة بمواقع التواصل الاجتماعي، هي نفسها التي حاول أردوغان في السابق خنقها.

ومن أبرز هذه العوامل وأكثرها رمزية، إجماع أحزاب المعارضة الكبرى، وأهمها حزب الشعب الجمهوري العلماني والحركة القومية وحزب الشعوب الديمقراطي الكردي التركي، على رفض الانقلاب العسكري.

وكانت هذه الأحزاب التي عانت طيلة السنوات الماضية من “سلطوية” أردوغان وهيمنة حزب العدالة والتنمية على مؤسسات الدولة، واضحة في وقوفها إلى جانب المسار الديمقراطي متناسية كافة الخلافات.

وفي ظل دعم أحزاب المعارضة والروح المدنية وشجاعة الأتراك، حافظت تركيا على مسارها الديمقراطي ونجح أردوغان في البقاء رئيسا للبلاد، إلا أن مراقبين يخشون أن يستغل الأخير ذلك لإحكام سيطرته على الحكم.

وأردوغان يجد نفسه اليوم قادرا على تعويض الخسائر التي بدأ يتكبدها مع حزبه من رصيده الشعبي الذي بناه بسبب السياسات الاقتصادية الناجحة، وتنذر تصريحاته الأولى بعد فشل الانقلاب ببدء “مرحلة قمعية” جديدة.

وفي أول مؤتمر صحفي عقده بعد بدء عملية الانقلاب، قال الرئيس التركي إن تركيا بعد هذا التمرد “لم تعد مثلما كانت في الماضي”، وتوعد بمحاسبة المتورطين ولاسيما خصمه فتح الله غولن المقيم بالولايات المتحدة.

وقال أردوغان، في تصريح آخر، “هذه الانتفاضة هي هدية من الله لنا لأنها ستكون سببا في تطهير جيشنا”، ما ينذر بأن السلطات ستعمل على إقصاء أي معارض لها بالجيش بزعم ارتباطه بمحاولة الانقلاب.

ومن الطبيعي أن يتم محاسبة ومحاكمة المتورطين في هذا الانقلاب الذي أسفر عن مقتل 265، 161 من المدنيين والشرطة ونحو 104 من المتمردين، إلا أن مراقبين يخشون أن يستغل أردوغان ذلك للانتقام من خصومه.

ويعد أنصار غولن أحد أبرز أهداف أردوغان المستقبلية، خاصة أنه كان، قبل الانقلاب، قد عمل في السابق على مهاجمتهم وعزل مئات من ضباط الشرطة والقضاة والمدعين العامين، وحاصر وسائل إعلام.

ورغم نفي غولن ضلوعه بالانقلاب وتنديده بالمحاولة، أصر أردوغان وأعضاء الحكومة ورئيسها على اتهامه، وتوعد “الكيان الموازي” وهو المصطلح الذي يطلق على مؤسسات وأنصار الرجل المقيم منذ 1999 في منفاه الاختياري.

وبدأت مؤشرات المرحلة الصعبة تلوح في أفق تركيا فور إعلان فشل الانقلاب، فالسلطات أمرت باحتجاز وعزل نحو 3 آلاف من القضاة وممثلي الادعاء مقربين من غولن، وأمرت باحتجاز بعضهم بينهم قضاة بالمحاكم العليا.

ويبدو أن أردوغان سيعمل على استغلال الإفشال الشعبي للانقلاب للعمل على إحكام قبضته على السلطة والتخلص من خصومه، والبناء على الهبة الشعبية والموقف المبدئي للمعارضة بغية تحقيق حلمه بتغيير النظام من برلماني إلى رئاسي.

سكاي نيوز