د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد
انتشرت مقاطع فيديو، في وسائل التواصل الاجتماعي، عن أحكام القصر والجمع في السفر، تفيد بأن من يسافر لبلد، له أن يقصر ويجمع ما دام في نيته الرجوع إلى وطنه، وإن أقام سنين؛ أو تقسيم السفر تقسيماً غير مسبوق إلى سفر عارض وسفر استيطان؛ ما جعل الناس يضطربون في ما يعرفونه من أحكام فقهية في باب القصر والجمع في السفر؛ وهي مقاطع حقيقةً تدعو إلى الاستغراب لعدد من الأسباب:
أولها: أنها صادرة من غير متخصصين في الفتوى خاصة، والفقه عامة.
ثانيها: أنها نحت منحى الترخيص غير المنضبط.
ثالثها: أنها في أهم أمور الدين وهي الصلاة، التي هي عماده وأحد أركانه وأسهمه، والتي يجب فيها سلوك الاحتياط والورع؛ لخطورة أمرها في دين المرء المسلم عامة والمفتي خاصة.
رابعها: خروجها عن فقه الأئمة الأربعة، الذي عليه أُمَّةُ الإسلام قديماً وحديثاً.
ذلك أن الخلاف الفقهي بين الجمهور، والسادة الأحناف، ينحصر في مدة الإقامة التي ينقطع بها حكم السفر، فالجمهور من السادة المالكية والشافعية والحنابلة قصروها في أربعة أيام غير يومي الدخول والخروج، وضبطها السادة المالكية في المشهور المفتى به بعشرين صلاة، وذلك لما روى مسلم عن العلاء بن الحضرمي، رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: «يُقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثاً»، وكان يحرم على المهاجرين الإقامة بمكة ومساكنة الكفار، فالتَّرخُّص في الثلاث يدل على بقاء حكم السفر، بخلاف الأربعة، وألحق بإقامة الأربعة: نية إقامتها.
قال ابن قدامة في المغني (2/ 212): لأن الثلاث حدُّ القلة، ثم استدل بالحديث المذكور، قال: ولما أجلى عمر، رضي الله عنه، أهل الذمة، ضرب لمن قدم منهم تاجراً ثلاثاً، فدل على أن الثلاث في حكم السفر، وما زاد فهو في حكم الإقامة، فنيّة الإقامة تقطع حكم السفر اتفاقاً، كما قال الطبري في تهذيب الآثار: وأما قول نافع: كان ابن عمر يقصر الصلاة في السفر ما لم يجمع إقامة، فإنه يعني بقوله: ما لم يجمع إقامة: ما لم يعزم على إقامة، يعني فإن عزم على الإقامة أتم.
أما السادة الأحناف، فقد وسعوا المدة التي تقطع حكم السفر إلى 15 يوماً، فمن دخل بلداً ومن نيّته المكث فيها هذه المدة انقطع سفره، وأصبح مقيماً؛ لما رواه أبوداود عن ابن عباس، قال: «أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح خمس عشرة، يقصر الصلاة»، فهذا كل ما ورد في تحديد المدة التي لا تقطع السفر.
فإن كان متردداً لا يدري متى تنقضي حاجته ليسافر على إثرها، فقد اختلفوا في المدة التي يباح فيها القصر مع هذا التردد، فعند الجمهور مادام متردداً، وعند الشافعية مدة ثمانية عشر يوماً غير يومي الدخول والخروج ثم يُتم؛ لما روى البخاري عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: «أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يقصر، فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا».
وبذلك علم أنه ليس هناك أقوال معتبرة عند الأئمة الأربعة، تبيح القصر والجمع والفطر لمن يعلم أنه سيقيم أربعة أيام عند الجمهور، أو 15 يوماً عند السادة الأحناف، فدعوة الناس إلى القصر والجمع والفطر، مع علمهم بمدة إقامتهم القاطعة لحكم السفر؛ فيها بُعدٌ عن الفقه المذهبي المُؤصل المتبوع، إلى فقه انفرادي، وتتبع لشواذ الأقوال التي ليس عليها عمل الأمة سلفاً ولا خلفاً.
فليحذر المسلم من إضاعة الصلاة لقول شاذ لا سند له ولا سلف، خشية أن يأتي يوم القيامة مفلساً.