لا يزال موضوع نقل الأعضاء من المتوفين دماغياً الذي اعتمده أخيراً صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، من المواضيع الساخنة على الساحة الطبية، ومثار جدل بين الأطباء حول التشريعات الصحية والقانونية التي تحفظ لهم دورهم كأطباء.

ويستحضر الأطباء قصة الطبيب النمساوي الذي أصدرت محكمة في دبي حكماً غيابياً بسجنه مدى الحياة (25 عاماً) حين كان يشغل منصب مدير وحدة العناية الفائقة في مستشفى راشد الحكومي، بعد إدانته بالتسبب عمداً في وفاة مريض، في فبراير من العام 2009، وذلك بعدما كان أمر بعدم إنعاش مريض مصاب بالشلل، وبعد يومين على هذا القرار، أمر الطبيب بزيادة جرعة المورفين للمريض الذي كان يعيش على أجهزة الإنعاش، الأمر الذي تسبب بوفاته من جراء نوبة قلبية.

أطباء الأعصاب، وهم أصحاب القرار في تقرير الوفاة الدماغية، أو بالأصح، وفاة جذع الدماغ، طالبوا المجلس الوطني والجهات التشريعية العليا لإقرار التشريعات الطبية والقانونية التي توفر الحماية للمنشآت الطبية وكذلك الأطباء، ويحد من معاناة الشخص المتوفى دماغياً؛ لأنه يعيش على الأجهزة، وفي حال وقف الأجهزة يموت الشخص خلال ثوان لأنه لا يستطيع القيام بأي وظيفة حركية شعورية أو إرادية ولا يستطيع التنفس إلا من خلال الأجهزة والأدوية، مؤكدين أن الشخص الذي يتم تشخيصه بموت جذع الدماغ هو شخص ميت سريرياً ولا يمكن أن يعود للحياة.

الدكتور سهيل الركن استشاري أمراض المخ والأعصاب في مستشفى راشد ورئيس شعبة الأعصاب في جمعية الإمارات الطبية يقول: «إن الأطباء اختلفوا في تشخيص وتعريف وأيضا العلامات الحيوية التي يعتمد عليها بالقول بأن الإنسان ميت دماغياً، ولكن ما اتفق عليه جميع الأطباء في مجال الأعصاب والعناية المركزة أنه يمكن القول إن الإنسان لديه موت جذع الدماغ وليس موت الدماغ، فمصطلح الوفاة الدماغية الأصح بها أن تسمى وفاة جذع الدماغ».

ويضيف الدكتور الركن: يستطيع الطبيب أن يقيس وظائف جذع الدماغ من خلال بعض المعاينات والفحوص السريرية التي تثبت وفاة الدماغ، لافتاً إلى أن هناك بعض المعايير وجدها البروفيسور العالمي بوسنا بعد رقابة المرضى الذين أصيبوا بغيبوبة طويلة (كوما) وفاة جذع الدماغ، حيث وجد أن الأشخاص الذين يعانون من الغيبوبة الطويلة لديهم بعض الأشياء المشتركة قام بقياسها ومعاينتها على مدى سنوات طويلة، ووجد أن وجود هذه الملاحظات السريرية تشير إلى أن احتمالية وفاة جذع الدماغ تفوق 99%.

وتمت دراسات ملاحظات البروفيسور بوسنا لسنوات طويلة حتى جاءت الأكاديمية الأميركية لطب الأعصاب والعناية المركزة في عام 1984 بنشر المعايير المعتمدة لإطلاق معايير موت جذع الدماغ، وتم إضافة بعض التعديلات عليها في بداية العام 2000، وتشمل: انعدام استجابة بؤبؤ العينين بالإضاءة المباشرة، وانعدام أي حركات إرادية وغير إرادية خلال الفحص السريري، وانعدام «الكالوريك تست»، إعطاء الماء البارد للأذن، وانعدام الاستجابة لاختبار رفع جهاز التنفس، حيث وجدوا أن وجود هذه المعايير مشتملة خلال 3 أيام تؤكد فرضية أن المريض مصاب بموت جذع الدماغ.

كما يشير الركن إلى أنه في الدول الأوروبية وأميركا تم اعتماد هذه المعايير لتشخيص المصابين بموت جذع الدماغ، وأكدت جميع الدراسات أنه لم يفق مريض واحد بعد أيام عدة أو أسابيع بعد تشخيصه بموت جذع الدماغ، مضيفاً أن من النتائج الإيجابية التي انعكست من تطبيق هذه المعايير رفع كفاءة المستشفيات والتوقف عن إنهاك جسم المريض بالتحاليل التي لا تصلح له، كما ساعد تطبيق هذه المعايير خلال فترة السبعينيات، بعد التحقق من وفاة الشخص «جذع الدماغ» في مرحلة مبكرة خلال الأيام الأولى من موتهم في موضوع نقل الأعضاء، لمرضى آخرين.

وفيما يتعلق بنقل الأعضاء من المصابين بموت جذع الدماغ يقول الدكتور سهيل: المملكة العربية السعودية كانت سباقة في برنامج نقل الأعضاء من بداية الثمانينيات من القرن الماضي، حيث تم إقرار الموت الدماغي وتم إقرار نقل الأعضاء من المتوفين دماغياً، حيث تم في السنة الأولى من تطبيق البرنامج نقل 2500 كلية لمرضى هم في أمسّ الحاجة، ثم تطور البرنامج لنقل الكبد والرئة والقلب والبنكرياس وغيرها.

من جهته، يقول الدكتور عادل السيسي متخصص العناية المركزة في «مستشفى برايم»: كانت الوفاة في عالم الطب والصحة سابقاً تُعرّف على أنّها توقّف القلب والجهاز التنفسي عن العمل بشكل دائم. ولكن في ظل التطوّرات العلمية وبروز الفكر التجريبي العلمي وانتشار أجهزة الإنعاش والتنفّس الاصطناعي منذ أوائل ستينيات القرن الماضي، اختلفت التعاريف والمعايير، حيث خلص الأطباء والمتخصّصون إلى مفهوم أكثر دقّة ووضوحاً للوفاة من المنظور الطبي، وهو أن الوفاة عبارة عن فقدان كامل لوظائف الدماغ.

بدوره، يقول الدكتور محمد فؤاد، استشاري المخ والأعصاب في المستشفى السعودي الألماني: إن وفاة جذع المخ تحدث بعد الإصابات الشديدة في المخ، حيث يتعرض المريض إلى تلف في نسيج المخ أو ارتفاع شديد في ضغط المخ، مما يؤدى إلى نقص تروية المخ، ووفاة الخلايا المخية وفقد كامل لوظائف المخ الإدراكية والفكرية، حيث تظل الوظائف اللاإرادية تعمل في بعض الحالات دون أي تقدم في وظائف المخ الأخرى.

وفي هذه الحالة يكون المريض معتمدا على الأجهزة الطبية التي تحافظ على حياته، خصوصاً جهاز التنفس الصناعي والمغذيات عن طريق الوريد أو الأنبوب المعدي.

ويضيف: يتم تشخيص الحالة إكلينيكياً بواسطة لجنة من خبراء عدة يجمعون على فقد استجابة المريض للردود العصبية في عدم وجود أي تأثير دوائي وأن المريض له درجة حرارة طبيعية، وبواسطة إجراء رسم مخ يثبت عدم وجود نشاط كهربي بالمخ وإجراء أشعة بالصبغة على الشرايين بالمخ، وبالرغم من توقف المخ يمكن حدوث بعض الحركات اللاإرادية بالأطراف.

لكنها نتيجة ردود أفعال على مستوى الحبل الشوكي وليس لها علاقة بالمخ، وهذه الحالات لا تعود إلى الوعي أبداً، وهذا يختلف عن الغيبوبة، وهي أن يكون المريض فاقداً للإدراك والوعي، ولكن يستطيع التنفس وبه نبض طبيعي، ولكن في حالات نادرة حدث رجوع من الغيبوبة إلى وعي شبه كامل.

تشخيص الوفاة الدماغية يستند إلى علامات ومعايير محددة

أكد الدكتور عادل السيسي أن ثمة علامات ومعايير محددة يستند إليها الأطباء عند تشخيص الوفاة الدماغية، وتتمثّل أهمّها في الإغماء الكامل، وعدم القدرة على التنفّس من دون أجهزة الإنعاش، وانعدام الانفعالات العكسية، وعدم حركة الرأس أو الجسم أو العينين.

وإلى جانب الفحص السريري، يتم تشخيص الوفاة الدماغية أيضاً عن طريق التخطيط الكهربائي والتصوير الشعاعي للأوعية الدماغية، ويتم ذلك على فترات متقطّعة عدة للتأكيد على استمرارية الحالة وعدم وجود أي نشاط كهربائي في الدماغ.

كما يمكن اختبار التنفّس عن طريق إيقاف الجهاز التنفسي الصناعي لمدّة لا تزيد على عشر دقائق وفق ظروف وشروط معيّنة تختلف بحسب كل شخص، بالإضافة إلى رصد نسبة ثاني أكسيد الكربون في الدم والتي يجب ألا ترتفع على 50 مم زئبق.

ويضيف: عند الحديث عن حالات الوفاة الدماغية، لابد من التطرّق أيضاً إلى زراعة الأعضاء، بحيث تقتصر عمليات نقل الأعضاء على حالات وفاة معينة، ولعل أنسبها هي حالات الوفاة الدماغية بحيث تكون الأعضاء سليمة وقابلة لإعادة الإنعاش كالقلب والكليتين والكبد والعينين وغيرها. ويشترط في هذه الحالة أن يتم استئصال العضو من الجسم خلال فترة قصيرة من إعلان الوفاة الدماغية، تفادياً لتلف العضو.

وحول الفرق بين الوفاة الدماغية والإغماء العميق، يقول الدكتور السيسي: تم تعريف الموت الدماغي على أنّه توقّف لا رجعة فيه في وظيفة الدماغ، في حين الإغماء عبارة عن خلل في كيفية عمل الدماغ وغالباً ما تكون نتيجة النقص الشديد في مستوى السكر أو انخفاض درجة حرارة الجسم أو تناول جرعات زائدة من الأدوية أو حدوث اختلال في مستوى الأملاح بالجسم.

ويختلف الإغماء عن الموت الدماغي بأن المريض قد يظهر علامات التحسّن والشفاء مع مرور الوقت ويكون الجسم قادراً على إظهار الانفعالات العكسية.

وصحيحٌ أن كلا الحالتين تتشابهان في نتائج المؤشرات الحيوية كانخفاض مستوى الدم وقلّة الأوكسجين في الدماغ، غير أن المريض المصاب بالإغماء العميق قادر على الحياة لفترة طويلة بالاعتماد على الغذاء النباتي. ويمكن تشخيص الإغماء العميق عبر سلسلة من الاختبارات السريرية والتصوير الشعاعي.

ويتم التأكد من الموت الدماغي ضمن شروط ومعايير صارمة، منها أن يتم تشكيل لجنة مؤلفة من ثلاثة استشاريين أعصاب، يفحص الأول المريض وبعده بثماني ساعات الطبيب الثاني وبعدهما بثماني ساعات الطبيب الثالث، ويتاح لهم استخدام كل الوسائل المباحة والمتاحة لتشخيص الموت الدماغي، وفي حال أكدت تقارير الأطباء الثلاثة أن دماغ المريض بدأ بالتحلل فهذا يعني أنه غير قابل للحياة بأي شكل من الأشكال وهنا يجوز للفريق الطبي وقف الدعم.

إثبات الوفاة عبر لجنة من 3 أطباء شرط للنقل والزراعة

حددت المادة 15 من قانون نقل وزراعة الأعضاء الجديد شروط نقل الأعضاء أو جزء منها أو أي نسيج بشري بعد الوفاة بشروط عدة، يتصدرها عدم النقل إلا بعد ثبوت الوفاة، وإثبات الوفاة عبر لجنة تشكل من ثلاثة أطباء متخصصين، من بينهم طبيب متخصص في الأمراض العصبية.

واشترطت أن يكون من بين الأطباء المشار إليهم وقت إعداد التقرير الطبيب الموكل إليه تنفيذ العملية، أو مالك المنشأة الصحية التي ستجرى فيها العملية أو أحد الشركاء فيها، وألا يكون المتوفى عبّر قبل وفاته صراحة عن رفضه التبرع بأعضائه وأنسجته، وأن يكون عبّر عن رغبته في التبرع، وأن يتبرع بطريقة تراعي عدم تشويه الجثة.

وعن إثبات التبرع لما بعد الوفاة أكدت المادة الـ 16 أنه يجوز لكل شخص توفرت فيه الأهلية الكاملة أن يبدي رغبته في التبرع من عدمه بأحد أعضائه أو جزء منها أو أنسجته لما بعد الوفاة.

ويحق للمتبرع العدول عن هذه الرغبة في أي وقت دون قيد أو شرط، على أن يدرج ذلك في بطاقة الهوية أو أي وثيقة أخرى، وفقاً لما تحدده اللائحة التنفيذية لهذا المرسوم بقانون.

العملية تتطلب فريقاً طبياً متكاملاً ومركزاً متخصصاً

أوضح الدكتور سهيل الركن أن برنامج نقل الأعضاء يحتاج فريقاً طبياً متكاملاً لأن هناك أعضاء كثيرة يمكن نقلها وتحتاج إلى تخصصات طبية مختلفة إضافة لمركز متخصص مع تنسيق وربط إلكتروني كامل بين أقسام العناية المركزة على مستوى الدولة بوجود مريض تنطبق عليه معايير موت جذع الدماغ مع ضرورة وجود خط ساخن مع مكتب التنسيق الذي يكون لديه قوائم بأسماء المرضى الذين يحتاجون لزراعة الأعضاء بحيث يتم نقل الأعضاء من المتوفى وتحضير وتجهيز المريض المتلقي بالوقت نفسه.

وفي دولة الإمارات هناك حاجة ماسة لتفعيل برنامج نقل وزراعة الأعضاء خاصة بعد صدور قانون نقل وزراعة الأعضاء والأنسجة البشرية من خلال إيجاد تشريعات طبية وقانونية تصدر من الجهات التشريعية في الدولة لإقرار تشخيص وفاة جذع الدماغ، حيث إن وجود مثل هذه التشريعات سيحمي المنشأة الطبية والطبيب ويوقف معاناة الإنسان المتوفى.

وناشد الدكتور الركن المجلس الوطني والجهات التشريعية في الدولة للإسراع في سن التشريعات والقوانين الخاصة بنقل الأعضاء من المتوفين دماغياً والاستفادة من البرامج المماثلة في دول مجلس التعاون خاصة وأن دولة الإمارات تمتلك كل مقومات النجاح في البرنامج، لتجنيب المرضى المصابين بفشل الأعضاء معاناتهم اليومية.

تختلف الآراء حول المعايير والمقاييس الواجب أخذها بعين الاعتبار للتأكّد من موت الإنسان، إذ ترى المدرسة الأميركية أن الوفاة عبارة عن فشل الدماغ بكافة أجزائه التي تتضمّن المخيخ والمخ والجذع، في حين تعرّف المدرسة الإنجليزية الوفاة على أنّها موت جذع الدماغ فقط.

وتكمن أهمية «جذع الدماغ» في كونه الجزء المسؤول عن تنظيم المؤشرات الحيوية للجسم بما في ذلك التنفس والحرارة والنبض وضغط الدم، في حين ترتبط وظائف «المخ» بالأحاسيس والتفكير والذاكرة، بينما تقتصر مهام «المخيخ» على تحقيق الاتّزان في جسم الإنسان.

البيان