عائشة سلطان
باكراً جداً، استيقظت من النوم صباح أمس، كان الصباح رائقاً، والجو معتدلاً في الخارج، يغري بالجلوس في حديقة المنزل، التي تضج بأصوات متداخلة، صوت الهواء، حفيف أوراق الشجر، أصوات العصافير المختبئة في عمق الأشجار، أزيز بعض الحشرات، صوت الماء الذي اندفع من نافورات الري، ليضفي حالة شتائية محببة على المكان، وسريعاً، بدأ النور يشحذ قوته ليفرض سطوته على المكان، نازعاً عباءة الليل والصمت والهدوء، جلجلت أصوات كلاب تنبح في البعيد، وهمهمات عمال أنزلتهم حافلة كبيرة على رصيف محاذٍ لمنزلنا، بينما انطلق سائقها مسرعاً يشق برعونة مزعجة هدوء الحي الذي بدأ يصحو ماسحاً آثار الليل.
اتخذت مقعدي في الحديقة، طلبت القهوة وجرائد الصباح، عبقت رائحة شجيرات الفل والياسمين، انتبهت إلى أنني أجلس في مواجهة باب البيت، تأملته حد الغرق في تفاصيله، لونه، نقوشه، العطب الذي بدأ يغزوه، تذكرت أنني كنت قد أنهيت ليلة الأمس، رواية قصيرة غرائبية بعنوان «الباب الأزرق»، لكاتب من جنوب أفريقيا، وفجأة، انهمر صوت فيروز، لا أدري من أين، بتلك الأغنية المليئة بالشجن!
في باب غرقان بريحة الياسمين
في باب مشتاق وفي باب حزين
في باب مهجور أهلو منسيين
هالأرض كلها بيوت يا رب خليها مزينة ببواب
ولا يحزن ولا بيت ولا يتسكر باب
سحبتني الذاكرة بعيداً إلى طفولتي، وبداية علاقتي الحميمة بأبواب الخشب القديمة المعروفة في تلك السنوات، كنت أتسمر أمامها، وأتحسسها بتلك العقد الحديدية الشبيهة بالمسامير، وبالباب الصغير الذي ينفتح على شكل نصف قمر من عمق الباب الكبير، فكان الكبار يحنون قاماتهم ليلجوا تلك الأبواب!
تذكرت أمي وأنا طفلة، تهرع إلىّ لتجدني أبكي أمام الباب أريد الخروج، لكنني خائفة من شيء أسود يشبه الحشرة، فيسمرني الخوف حتى تأتي هي لنجدتي!
الباب زينة البيوت، وسترها، وقفل أسرارها وأمانها، وأول علاقتنا بالخارج، وأول شغفنا بالمعرفة والطيران بعيداً، وأول صدامنا مع المختلف، وأول احتمالنا لغير ما ألفناه، أما حين نكبر، فلا نفكر إلا في اجتيازه!
البيان