كلف الرئيس اللبناني ميشال عون أمس رئيس الوزراء الأسبق سعد الحريري تشكيل الحكومة الجديدة في ضوء الاستشارات النيابية الملزمة التي أجمعت على تسميته (112 نائباً من أصل 126)، باستثناء نواب «حزب الله» الـ13. وشكر الحريري في كلمة قصيرة في القصر الرئاسي كل الكتل النيابية بما فيها تلك التي امتنعت عن تسميته (في إشارة إلى نواب الحزب)، وقال «إنه عهد جديد وأملي في تشكيل حكومة تواكب انطلاق العهد وتمكننا جميعاً من شبك أيدينا لمعالجة الأزمات المعيشية والاقتصادية والبيئية والأمنية والسياسية التي يعاني منها اللبنانيون، وإنني أتطلع الآن للشروع في الاستشارات لتشكيل حكومة وفاق وطني تتخطى الانقسام السياسي بشكل سريع». لافتاً إلى أنه سينطلق في مشاوراته مستنداً إلى إجماع القوى السياسية على خطاب القسم الذي أداه عون فور انتخابه رئيساً مطلع الأسبوع الجاري.

وأعرب الحريري عن أمله في تشكيل حكومة تضع حداً لمعاناة المواطنين، وتتصدى للمشاكل الاقتصادية والسياسية والأمنية وتسهم أيضاً في حماية لبنان من الإرهاب والأخطار المحيطة به وإعادة ثقة العرب والعالم بالدولة اللبنانية ومؤسساتها واقتصادها، وتتمكن من إنجاز قانون انتخابي يؤمن عدالة التمثيل، وتشرف على إنجاز الانتخابات النيابية في موعدها. وقال «حق اللبنانيين علينا أن نشرع سريعاً في العمل لنحمي وطننا من النيران المشتعلة من حوله ونحصن مناعته في وجه الإرهاب ونوفر له مستلزمات مواجهة أعباء النزوح» (في إشارة إلى أكثر من مليون سوري لجأوا إلى لبنان منذ بدء النزاع في بلادهم في 2011)، ونعيد الأمل والثقة إلى شبابنا وشاباتنا بمستقبل أفضل ونعيد ثقة العرب والعالم بلبنان ورسالته ومؤسساته واقتصاده وسياحته والاستثمار فيه».

ويعد تشكيل الحكومة في لبنان مهمة صعبة جداً وأحياناً تتطلب وقتاً طويلا تصل أحياناً إلى عشرة أشهر. وعادة ما تختلف الأطراف السياسية على توزيع الوزارات السيادية (الخارجية والداخلية والدفاع والمالية) وتحتاج وقتاً لتقسيمها فيما بينها. وهذه المرة الثانية التي يتولى فيها الحريري رئاسة الحكومة. وكانت المرة الأولى بين 2009 و2011 حين ترأس حكومة وحدة وطنية ضمت معظم الأطراف، وأسقطها «حزب الله» وحلفاؤه وعلى رأسهم عون بسحب وزرائهم منها.
وحددت الأمانة العامة لرئاسة مجلس النواب اليوم الجمعة وغداً السبت موعداً لإجراء الحريري مشاورات تأليف الحكومة. وأعلنت في بيان أنه بالإشارة إلى البيان الصادر عن المديرية العامة لرئاسة الجمهورية بتكليف الحريري تأليف الحكومة، سيجري الرئيس المكلف استشارات التأليف يومي الجمعة والسبت في مجلس النواب «. وكان رئيس مجلس النواب نبيه بري ساهم في إنجاح مهمة تسمية الحريري، وقال بعد لقائه عون في القصر الرئاسي «اليوم وبعد أن اجتمعت بكتلة التنمية والتحرير مع قيادة الحركة التي انتمي إليها قررت أن أقدم طلباً وتمنياً باسمنا جميعاً بتسمية الحريري لرئاسة الحكومة»، وأضاف رداً على سؤال حول مشاركته في الحكومة الجديدة «هذا القرار الذي أخذته كتلة التنمية والتحرير وحركة أمل بالتسمية لو كان ما في نية للتعاون ما كنا سميناه».

وبدا حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أكثر تفاؤلا إزاء التغييرات السياسية في البلاد. وقال خلال مؤتمر للمصارف في بيروت إن انتخاب عون سيعيد الحركة الطبيعية إلى المؤسسات الدستورية، ما يعني زيادة الثقة في الاقتصاد، فيما تشكيل الحكومة سيساعد على جذب المساعدات الأجنبية وتخفيف تكاليف الوجود السوري في لبنان، والتي تقدر بخمسة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.

واعتبر رئيس قسم العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في بيروت هلال خشان أن أول تحد أمام الحريري هو أن يتضمن بيانه الوزاري كلمة «المقاومة» (التي يقودها حزب الله) ضد الاحتلال الإسرائيلي، فجمهوره الرافض مشاركة الحزب في الحرب في سوريا لن يتقبل ذلك، وقال «إن الجو السائد حالياً هو أن حزب الله وإيران هما المستفيدان».

فيما كتبت مديرة مركز كارنيجي للشرق الأوسط مهى يحيى أن الحريري سيواجه «مطبات» عدة أحدها حين تصيغ الحكومة بيانها الوزاري الذي يتعيّن عليه أن يُبدي توافقاً حيال مسائل وطنيّة مهمّة، من بينها دور حزب الله في سوريا وتمويل المحكمة الدولية المكلفة النظر في اغتيال والده إضافة إلى إمكانية احتواء خطاب الحزب العدائي ضدّ السعوديّة.

«الوريث» العائد لرئاسة الحكومة.. شعبية ثابتة وخصومة مستمرة

سعد الحريري الذي كُلف بتشكيل حكومة جديدة في لبنان، هو الوريث السياسي لرئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري الذي اُغتيل في 2005. سطع نجم الحريري (46 عاماً)، زعيماً بعدما قاد فريق «قوى 14 آذار» في 2005 إلى فوز كبير في البرلمان، ساعده في ذلك التعاطف معه بعد مقتل والده، والضغط الشعبي الذي تلاه وأسهم في إخراج الجيش السوري من لبنان.

وهذه المرة الثانية التي يتولى فيها الحريري رئاسة الحكومة. وكانت المرة الأولى بين 2009 و2011 حين ترأس حكومة وحدة وطنية ضمت معظم الأطراف، وأسقطها «حزب الله» وحلفاؤه وعلى رأسهم ميشال عون بسحب وزرائهم منها. وتكمن المفارقة اليوم في أن الحريري يعود رئيساً للحكومة بناءً على تسوية اتفق عليها مع عون الذي انتُخب رئيساً للجمهورية الاثنين.

وعلى الرغم من القاعدة الشعبية العريضة التي انطلق منها، لم يحقق الكثير في مشواره السياسي بسبب عمق الانقسامات في لبنان، بل اتسمت مسيرته بكثير من التنازلات، ما عرّضه لانتقادات كثيرة حتى داخل فريقه السياسي وشارعه. لكنه يبرر ذلك باستمرار بأنه يُعلي المصلحة اللبنانية على مصلحته الشخصية، ويردد قولاً لوالده «لا أحد أكبر من وطنه». فقد خاض مواجهات سياسية مع دمشق و«حزب الله». لكنه لم يخضع للضغوط التي تعرض لها من الحزب خلال ترؤسه الحكومة، إلى التنصل من المحكمة الدولية المكلفة النظر في اغتيال والده والتي وجّهت اتهامات إلى عناصر من الحزب بالمشاركة في عملية الاغتيال. ورفض حزب الله أي تعاون مع المحكمة.

عاش الحريري بين 2005 و2007 لفترات طويلة خارج لبنان في مرحلة كانت تشهد اغتيالات. وبعد إسقاط حكومته في 2011، تصاعد التوتر بينه وبين حزب الله على خلفية تدخل الأخير في سوريا وقتاله إلى جانب نظام الرئيس بشار الأسد. ورغم دعمه عون، أكد الحريري أخيراً أن موقفه من الحزب لم يتغير وأنه سيبقى رافضاً لتورطه في القتال إلى جانب «نظام قاتل».

وُلد الحريري في 18 أبريل 1970. وهو يحمل إجازة في الاقتصاد من جامعة جورج تاون في واشنطن. وهو متزوج من لارا بشير العظم التي تنتمي إلى عائلة سورية عريقة شاركت في السلطة خلال الخمسينيات، ووالد لثلاثة، صبيين هما حسام وعبدالعزيز وبنت لولوة. ويروي مقربون منه أنه يهوى الطبخ، ويطبخ أحياناً لأصدقائه. كما يهوى القيام بتمارين رياضية.

ورث الحريري عن والده، بالإضافة إلى السياسة، ثروة ضخمة وشبكة واسعة من العلاقات حول العالم. وكان يتولى إدارة شركة «سعودي-أوجيه» للبناء والتعهدات. وفي الآونة الأخيرة، تفاقمت مشاكل الحريري المالية مع مواجهة «سعودي-أوجيه» لعثرات كبيرة أجبرتها على الاستغناء عن خدمات مئات الموظفين والعاملين لديها في السعودية، ما انعكس سلباً على المؤسسات التي يملكها في لبنان.

الاتحاد