عائشة الجناحي

جلس في وحدته وهو عالق بين السماء والأرض تماماً بين الحقيقة والخيال، يلهث من الإعياء فقد بدأ يتذكر الأيام التي قضاها مع ذلك الصديق الذي لم يتهاون لحظة في تحطيم كل الذكريات التي قضاها معه وبالتحديد أجمل البدايات.

فأحياناً يكفي أن ترى شخصاً لأول مرة فتدرك أنه سيكون لك معه شأنٌ ما، ولكن مع مرور الوقت تسقط الأقنعة لتكشف أبشع الوجوه فيشعر وكأنه يسمع صراخه الداخلي كمن يستنجد من داخل بئر عميق ولكن لا مجيب، فيصل إلى نقطة النهاية ويدرك فشل العلاقة التي كانت أشبه بالسراب.

لا شيء يفسد المودة كالتكبر ولا شيء يغرس الحب ويثبت أركانه كالتواضع، ولو سألنا ما هي الأرضية التي لا تنمو الصداقة إلا عليها، لكان الجواب قطعاً التواضع، فبدونه لا يمكن أن يجتمع قلبان، فهو ما يضمن استمرارية أغلب العلاقات.

فالصداقة لها معنى عميق فما أروعها إن قامت على الحب والتضحية، وكما قيل عن الصديق الحقيقي «هو من كان معك، ومن ضر نفسه لينفعك، ومن إذا ريب الزمان صدعك، شتت شمله ليجمعك».

فعندما تحيط بك النوائب تجد الصديق بلسماً شافياً للجروح، ولكن اليوم نجد الكثير من الأصدقاء يتغيرون بعد المناصب، متناسين أن هذه المناصب قد يتركونها بين ليلة وضحاها، فهي تتغير باستمرار ولا تدوم لأحد، فإذا كان يشار إليهم اليوم بالبنان فربما يكونون غداً سيرة ذاهبة. بعكس بعض الأصدقاء الذين لا تغيرهم حدود الأمكنة ولا اختلاف المناصب أو المراكز بل يزدادون تواضعاً.

فانظر إلى تواضع أبي بكر الصِّدِّيق، «لما استُخلف الصِّدِّيق، رضي الله عنه، أصبح غادياً إلى السُّوق، وكان يحلب للحي أغنامهم قبل الخلافة، فلمَّا بُويَع قالت جارية مِن الحي: الآن لا يحلب لنا.

فقال: بلى لأحلبنَّها لكم، وإنِّي لأرجو ألَّا يغيِّرني ما دخلت فيه»، قال هذا وهو مِن المبشَّرين بالجنَّة، وهو الصِّدِّيق العظيم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفته مِن بعده، واليوم كم غيرت المناصب أنفس الأصدقاء ليتوغل في قلوبها الحقد وحب الذات، والصعود على أكتاف الآخرين، متناسين كل من وقف بجانبهم لتخطي العقبات، وناسين أن دوام الحال من المحال.

من الصفات الراقية التي تضمن استمرارية أغلب الصداقات هي صفة التواضع، فهو ما يفرض احترام الآخرين، ويكسب قلوبهم؛ لأنه يغرس الحب ويثبت العلاقة الأخوية، فالمتواضع هو الصديق الحقيقي الذي تروق مجالسته، وتطيب محادثته فلا يجعلك تندم على من قد سقط من حسابات صداقتك، فهو يعوضك ويحتويك ويستوعب حالاتك المختلفة من فرح وحزن وضيق، ويفهم أسباب غضبك ويحتمل أسباب عصبيتك، فلا يقف لك بالمرصاد، وتجده يحفظ أسرارك ويساعدك على حل مشاكلك.

يؤكد لي البعض أن هذه الصداقات انقرضت، هي ليست كذلك، فالمجتمع بخير والأخيار كثيرون ولو خليت لخربت، ولكن لا تطلق مسمى الصداقة على كل عابر يمر بحياتك حتى لا تقول يوماً الأصدقاء يتغيرون.

البيان