فاضل يوسف “باحث في التراث “_ الفجيرة نيوز

تتكئ التجربة السينمائية للمخرجة العمانية مزنة المسافر، على النبش في التراث الخافت والمنسي، مضيئة رماده لينهض منه الحقيقي والجوهري، متخذةً من الجرأة لساناً يروي ويستعيد ذاكرة الفولكلور والميثولوجيا، اللذين توظفهما مزنة لإنتاج لغةٍ لسينما تناظر الواقع.

من الفولكلور والتراث الشعبي، البلوشي، والبدوي، والأفريقي؛ تعرض مزنة المسافر إيمانها بوحدة التنوع، وبكون التنوع وقوداً يثري التجربة الإبداعية على عكس طمس الاختلافات وتغليب السائد، الذي سيفقر الإبداع ويحدّ من قدرته على النظر والتعمق في تحولات المجتمع واعتقاداته.

حيث تدأب مزنة في أفلامها على التفاصيل التي تمثل نواة لقضايا كبرى تشغل أحياز الواقع الآنية، كالهويات والانتماءات الثقافية والإثنية، والحراك الجدلي؛ اتحاداً وتنافراً، بين الجذور المتعددة التي تؤسس الكيان أو المجتمع الواحد. مبتعدةً عن التعميمات السطحية والسهلة، لتنغمس في إعادة قراءة حركة الاجتماع الإنساني عبر جزئياته المتناثرة التي تخفي روابطها وأواليات عملها إلا للمدقق.

ولأنها أيضاً ليست مهمومة بتقديم الحلول للتعقيدات بقدر اهتمامها بتقديم الواقع من زاوية نظر مختلفة؛ تنتهي أفلامها نهايات مفتوحة تحيل إلى احتمالات متعددة تتغذى من الأسئلة القلقة التي نثرتها في عملها السينمائي.

في فيلم “دانة وأنا ورحلتنا مع الماعز”، توثق مزنة ليوم عادي في حياة امرأة بدوية، مقتفية تفاصيل نمط حياة يكاد يذوي. ومع تسليط الفيلم الضوء على حياة المرأة البدوية وأطفالها وأغنامها، لكنه يرصد كذلك الكثير مما اندثر في حياتنا، مثل علاقة المحبة والمعرفة بين الإنسان والحيوان. كما يقدم المرأة العمانية وخبرتها العملية في الحياة، وانعكاس هذه الخبرة على تكوين شخصيتها الواثقة الراسخة القوية.

ترصد كذلك، التحولات بين الأجيال تجاه الماعز، ففي حين كان الماعز عند الأجيال السابقة يكاد يكون مقدساً، يرفض طفل شرب الحليب لعدم استساغته لطعمه.

الفيلم غني بالتفاصيل، والجزئيات الصغيرة التي تعمل معاً لإثراء المشهد الكلي.

يقول الناقد العماني سماء عيسى: كان من الممكن أن تذهب مزنة في هذا الفيلم، إلى ما هو أبعد مما قدمته، لأن كل ما أمامها ثري ومتراكم، لكن تناوله السينمائي محدود جداً. ممكن جداً في مستقبل الأيام الذهاب إلى أبعد من توثيق صحراء اليوم الواحد، خاصة وأنها أهملت إظهار جماليات الصحراء، وارتباط الإنسان والحيوان بها، وخسارة فقدان هذا الارتباط الروحي أمام زحف المدنية، وهي تغير معالم الحياة ليس في مظهرها فحسب، بل في أعماق أبنائها أيضاً.

وفي فيلم “بيشك”، تبدو تجربة مزنة أكثر نضجاً منها في فيلم “دانة وأنا ورحلتنا مع الماعز”، رغم أنها تسير وفق نهجها في إثراء المشهد الكلي بتفاصيل الحياة اليومية لشخصيات الفيلم، فحرصت مزنة أن تقدمها على فطرتها، مثلما هي في واقع حياتها، دون تصنع يذكر. كما حرصت على تقديم الحوار بالبلوشية، وقدمت حياة الشخصيات بصدق. وهنا لا إشكالية في الهوية، وبحث الانتماء لوطن مفقود كما هو في فيلم cholo. إذ لا تعارض على الإطلاق بين الانتماء الوطني وخصوصية الجذر. في المشهد الأول من الفيلم، تتحدث امرأة مشيرة إلى مدينة مطرح قائلة: “هذه هي أرض أجدادي”. وما تثريه مزنة إذن، هي الخصوصية فقط. فالوحدة تأتي من التعدد، والخصوبة تكمن في هذا الاختلاف، بل وفي هذا الاعتزاز بالجذر. رحابة الوطن الأم هي مصدر الثراء. تلك هي رسالة مزنة الأولى والأهم. والاحتفاء بالخصوصية يأتي لاحقاً في اللغة وطقوس الزواج المختلفة، في أغنياتها وزف العريس عوضاً عن زف العروس، واقتناء ملابس ذات ألوان زاهية، عرفت بها نساء المناطق الساحلية من عمان عموماً.

ذكاء المخرجة في التقاط تفاصيل تثري المشهد الكلي، تكمن في العودة إلى أرشيف صور العائلة، حيث نرى أنه أرشيف عسكري، فآباء وأجداد المرأة عملوا جنوداً في الجيش السلطاني في خمسينيات القرن الماضي. دون شك تقدم المرأة هذه الشهادة كشهادة اعتزاز بتاريخها العائلي، الأمر الذي توظفه المخرجة جيداً، ليس كأسلوب دعائي ساذج، بل كتأكيد على الانتماء الوطني عبر التاريخ.

فاز فيلم “cholo” بجائزة أفضل سيناريو في مهرجان أبوظبي السينمائي، وقبله تم اختياره كواحد من أفضل السيناريوهات المقدمة لنيل ثقة وقبول مهرجان الخليج السينمائي. وتأتي جرأته في طرح الموضوع سينمائياً، وهو موضوع الهوية المفقودة، أو الحنين إلى الجذر البعيد وراء البحار، من خلال صبي يفتح عينيه متسائلاً وباحثاً عن انتمائه المزدوج العربي والأفريقي في آن.

الاعتقادات الشعبية توظف جيداً في الفيلم، خاصة من خلال أسطورة الوحش الذي يتخذ أشكالاً متعددة في خبز المندازي، وهو خوف يتجدد ليلاً لدى الصبيين، نظراً للظلام السائد في أفريقيا، وما تقدمه مزنة أولاً عدم الارتياح الأفريقي لوجود الجذر العربي بينهما، إثر حادثة الاعتداء على الصبيين في السوق، وتهديد عصابة أفريقية لهما بالقتل إن اقتربا من السوق ثانية، وثانياً تعويض ذلك لدى الصبيين برسم حروف عربية على رمل الشاطئ، ومحاولة قراءة اللغة العربية وكتابتها، وهي بالطبع كل ما تبقى لديهما، من جذور بعيدة، يحلم الصبيان بوصلها مرة أخرى، وهما يتطلعان إلى البحر أملاً في عبوره يوماً ما، عائدين عبره إلى مواطنهما الأولى.

ما تؤكده مزنة من خلال سير الأحداث في cholo، هو استسلام الوالدين لمصيرهما في الانتماء الأفريقي، كمهاجرين عاشا واستقرا في حياتهما الجديدة، خاصة الأب، رغم أنه مثلما تذهب أحداث الفيلم يعيش عدم استقرار أمني ونفسي، ولم يكن ذلك كافياً لزرع الاستقرار النفسي في الصبيين، إذ وهما يدركان جذورهما الغريبة عن المكان، يودان لو عادا من حيث أتت أرواح المهاجرين القدماء، ويعودان دون أن يسألهما أحد ما عن

سر عودتهما إلى هذه البقعة من الأرض، لأنها كانت يوماً ما المنبت الأول لأسلافهما القدماء.

ويؤكد سماء عيسى أن الحياة التي تقدمها مزنة في الأفلام الثلاثة، حياة مرحة تغشاها البهجة والتفاؤل، لا نلحظها إلا نادراً في الإبداع العُماني المعاصر، المتهم بتشاؤمية تجاه الأحداث، وتقديم الإنسان مغترباً عن واقعه رافضاً إياه. ليس في هذا الطرح نقد ما، فذلك حقيقي ومشروع في كل زمان ومكان، إلا أن الوجه الآخر الذي تقدمه مزنة، الذي يدفعنا إلى التعاطف العميق مع كائناتها، هو أنها ذهبت إلى الطبقات الشعبية من المجتمع، التي هي مشبعة بحب الحياة رغم صعوبتها وقساوتها، وتعمل وتكدح فيها دون تذمر وتأفف، رغم وقوعها في معاناة التهميش والفقر. لأن المآسي هنا جزء من حياتها، والمآسي هنا لا تكف عن الرحيل والقدوم ثانية، مثل ذلك الأب الأفريقي ذي الجذور العمانية في فيلم cholo، الذي يأتي ويرحل، ويرحل ويأتي، دون تذمر من الصعوبات المعيشية والإرهاق البدني والنفسي الذي وضعته الأقدار في سياقه، واقتناعه بأنه جزء من هذه الدائرة التي تطحن ما أمامها، حتى يوم رحيله النهائي عن الحياة.

وأخيرًا يقول عيسى: الطبقات الشعبية هي ما حفظ التراث الشفهي العُماني، خاصة في جانبه الفولكلوري، وهذا ما تقدمه مزنة المسافر في تجربتها، التي وإن كانت في بداية الطريق، إلا أنها تحمل في مكنونها نواة تجربة سينمائية قادرة على إضافة نوعية متميزة في الطريق الشاق نحو خلق التحول الكيفي المنتظر من السينمائيين العمانيين في قادم الأيام.