الفجيرة اليوم / قراءة : أ. د. محمّد عبدالرّحيم سلطان العلماء
وعلى خطى الوالد الجليل صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، يسير سموّ الشيخ حمدان بن محمّد بن راشد آل مكتوم، بوراشد الابن، فيبدع في السياسة والإدارة وكتابة الشعر وإلقائه، بحيث تشعر أنه يستلهم صوت والده وإحساسه الشعري الفريد الذي لا تخفى نبرته على صاحب الذوق العالي، وفي هذه القصيدة الرائعة سنكون ظالمين لها إذا قرأناها على الورق. بل يجب علينا، كي نتذوق أدق معانيها وملامحها الإنسانية البديعة، أن نسمعها من سموّه وهو ينشدها بإحساس شعري فريد يقول ما لا تقوله الكلمات المكتوبة.
ومنذ القديم عرفت البادية العربية نمطاً عجيباً من الصداقة بين فرسان الليل وذئب الصحراء، حتى سمّى بعض فرسانها نفسه (مخاوي الذيب)، في إشارة واضحة الدلالة إلى عمق العلاقة التي تجمع بين الإنسان وبين هذا الكائن الفريد الذي له خصوصية في ثقافة البادية، وترى فيه نموذجاً للقوة والصبر والوفاء، وتطرب حين تسمع جُواحه وهو ينادي بعوائه العجيب من الجوع أو الجرح.
في هذه القصيدة يتألق سموّ الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم على نحوٍ مذهل في بثّ شكواه للذيب، ويجعل منه إنساناً يستحق الخطاب والحديث في هدأة الليل، معبراً في هذا الحديث الذي يجمع بين البساطة والعمق والحكمة عن مغزى العواطف الإنسانية المغدورة من الحبيب والصِّحيب، فالقصة أكبر من مجرد حديث مع ذيب الليل، بل هي عتاب يجرح القلب، وتعبير عن أوجاع الروح من خلال هذا الغناء الصافي المهيب.
يــــــاذيب يــــــاللي علــــــى راس الجبــــــل لــــــك قنيــــــب
النـــــــــاس بعــــــــــواك دايــــــــــم تلفــــــــــت أنظـــــــــارها
كأنّــــــــــك تــــــــــنادي العـــــــــالم ولا لــــــــك مجـــــــــيب
بيــــــــــن الســـــــــما والجبـــــــــال الصـــــــــلفه حجارهـــــــــا
لـــــو كـــــان مــــن جــــوع قلــــت الصــــيد منّــــك قريــــب
حَـــــــــوّل علـــــــــى الصـــــــــيده بيمنـــــــــاك واختارهـــــــــا
«ياء» النداء في العربية لنداء القريب والبعيد: حقيقة ومجازاً، وههنا تصلح لكلا المعنيين، فالشاعر العميق الإحساس بالأشياء يستحضر الأشياء كأنها أمامه، وفي هذا المقطع يخاطب سموّه، هذا الذيب العاوي في جوف الليل الذي يعلو قنيبه (يعني صوته) على رأس الجبل، ويلتفت الناس إلى صوته، ولكن القليل القليل منهم من يفهم سرّ عُوائه.
ولذلك يفسر سموه عدم فهم الناس لصوته بأنهم لا يفهمون مراده فلا يجيبونه، فإذا كان السبب هو الجوع فإنّ الذئب حيوان كاسر ويستطيع أن يفترس ما يشاء من الطرائد، فالصيد منه قريب ويمينه «طايلة» وتختار ما تشاء من الصيد، ولكن الشاعر بحسه الإنساني المرهف يتحوّل بالقصة نحو أفق آخر يقترب بها من هموم الإنسان ومشكلاته، ليأتي المقطع التالي بديعاً في أسئلته وتدرجه نحو مغزى القصيدة الأساسي:
وان كــــان تشــــكي مــــن الغربــــه فــــي عصــــرٍ غريــــب
مثلـــــــك شكـــــــت نـــــــاس غربتهـــــــا وفـــــــي دارهــــــا
وان كــــــان علـــــى العـــــوا هيّضـــــك وقـــــت المغيـــــب
اللـــــــــي يجـــــــــر النفـــــــــوس ويفضــــــــــح اســــــــــرارها
أكيـــــــد قلبـــــــك محـــــــب، وفاقـــــــدٍ لـــــــك حبيـــــــب
خـــــــــذاك مـــــــن جنّــــــــة اللهــــــــفة إلـــــــى نـــــــــارها
في هذه اللحظة تنفجر نبعة الإحساس الإنساني في قلب الشاعر، ويقترب من روح الحزن لدى هذا الذئب الجريح، الذي يشكو من أوجاع لا يعرف أسبابها، فيكشف سموّ الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم عن سرّ ذلك: فإذا كان يشكو من الغربة فهناك من يشعر بالغربة وهو يعيش في قلب وطنه وداره، فهي غربة نفوس لا غربة أجساد وأبدان.
وإذا كان حلول الغروب هو الذي هيّج في قلب الذئب الحنين إلى العواء، فهذا يعني أنه فاقد حبيبه لأن الليل هو الذي يجمع شمل الأحباب ويثير الذكريات ويجدد الأحزان، وههنا تبدأ القصيدة بالإفصاح عن أسرارها ومغزاها، فهي تجعل من الذئب قناعاً لإدانة كل مظاهر الغدر والجفاء بين جنس الإنسان، لا سيما بين الأحباب الذين يجمعهم العهد والميثاق.
فــــــــــزاع ترجـــــــــم أحاسيســـــــــك بحـــــــــس الأديـــــــــب
اللـــــــــي قريحــــــــــته مــــــــاهي تنضـــــــــب أفكارهــــــــا
خــــــل الليــــــالي تجيــــــب مْــــــن الشـــــقا مـــــا تجيـــــب
ولا تـوقّـــــــــــــع تـقـــــــــــــدّم صادق أعــــــــــــذارها
الأمـــــــر عـــــــادي تـــــــرى لا تحســـــــب انّـــــــه مريــــــب
إصــــــــــــبر وزيـــــــــــد العــــــــــــناد ان زادت إصـــــــــــرارها
هنا يبلغ التعاطف ذروته، ويُفصح سموّه عن شخصيته الشعرية التي تتحسس آلام الكائنات حتى لو كانت من فصائل الحيوان، وينعطف بالقضية نحو بُعْدٍ أخلاقي يؤكد فيه على ضرورة الصبر وعدم الاستسلام لواقع الحياة اللئيم الذي يجلب الشقاء، لكن الشاعر بهمته العالية وإرادته الحديدية وقناته الصلبة التي لا تلين يشدّ من أزْر هذا الذيب الجريح ويأمره بالصبر مهما جاءت الحياة بأنواع الشقاء، بل واجبه أن يزداد عناداً وإصراراً، وما أجمل البيت الأول في هذا المقطع، حيث يقترب سموّه بحسّه الإنساني المرهف من لحظة الوجع فيقول:
إنّ فزّاع وهو الاسم الشعري لسموّه، وفيه دلالة على الفزعة وتقديم النصرة، كما هي أخلاق الفرسان الذين يُغيثون الملهوف، يقول: إنّ فزّاع قد ترجم أحاسيس الحرمان في نفس الذئب بإحساس الأديب الذي يصوغ القوافي ويبدع في تجسيد الألم مهما كان مصدره، معتمداً في ذلك على قريحة فيّاضة بالمعنى وقلب خافق بالحب لكل الأشياء، ثم يضرب له المثل كي تدخل القضية في طور الإقناع وتزداد البصيرة خبرة بالحياة وأحداثها الجِسام فيقول:
كـــــم يصـــــبر الجـــــذع فـــــي حـــــر المقيـــــظ الكئيـــــب
حتــــــــى تصب السـحابـــــــــه فـــــــــوقه أمطــــــــارها
ويـــــــروى ويخضــــــر ليــــــن تشــــــوف غصــــــنه رطيــــــب
ودورة فصول الســـــــنه مـــــــا أتعبـــــــه مشــــــوارها
أمّــــــا عــــــن الحــــــب، فـــــأمْر الحـــــب أمــــــرٍ عجيـــــب
وأهـــــــــل المحبّه تعَـــــــــرف العــــــــالم أخبارها
وهذه صورةٌ جميلة منتزعة من قلب الحياة، حيث يصبر الجذع على الحرّ اللاهب، ويظل صامداً تحت التراب حتى ينزل الغيث من سحابة الخير، فلو استسلم للموت والذبول لكان هباءً منثوراً، لكنه يصبر ويثابر حتى يحصل على المقصود. وهذا هو جوهر الحياة التي يجب أن نواجهها بالصبر والثبات حتى تحقيق المطالب، فإن المطالب لا تُنال بالتمني ولا تؤخذ الدنيا إلا غِلابا.
وانظر معي إلى هذا الإيقاع الحركي في تصوير حركة الجذع وهو يشقّ طريق الحياة ويبرز ويصبح غصناً رطيباً نضيراً، تأنس به العين، وتحصل به البهجة، بعد أن كان بذرة وجذراً يابساً لا حياة فيه، وهكذا هي دورة الحياة لا تنتهي أتعابها ولا يتوقف إيقاعها، ولا يصبر على لأوائها وشدائدها إلا أهل العزيمة والثبات.
وبحسٍّ شعري فريد يقترب سموّه من أرقى عاطفة إنسانية، وهي الحب، فيتكلم عنه بهذه اللغة العالية اللطيفة، فالحب شأنه عجيب وأهل الحب قد اشتهرت أخبارهم تماماً، كما قال أحد الفلاسفة ذات يوم: نحن نحب قيساً وليلى وروميو وجولييت ولا نعرفهم، ولكننا نحبهم لأننا نحب الحب، وهو ما عبر عنه سموّ الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم في هذا البيت المرهف الجميل.
ولما كان لكل داء علاجٌ، فإنّ داء الحب وما ينشأ عنه من جروح القلب ليس سهلاً علاجه، حتى لو وصف الطبيب العلاج، لأن حجم العلاج بحجم الحب، والحب هو أكبر عاطفة إنسانية، فمن أين يكون العلاج لهذا الداء الوبيل الذي يتخلّل العظام ويبري القلب والوجدان:
لا للجـــــــــــروح أدويــــــــــه حَسَــــــــــب كلام الطــــــــــبيب
لكـــــــــن حجــــــــــم الـعــــــــــلاج بحجــــــــــم مقـــــــــدارها
إلاّ جــــــــروح الصــــــــحيب الموجعـــــــه مـــــــن صحيـــــــب
عـلاجـــــــــها عنــــــــد مـــــــن هـــــــو سبّب آثـــــــــارها
والصحيب هنا هو الحبيب، فهو الذي يتوجع من جراحه الإنسان، وكما قال الشاعر في تصوير هذا المعنى البديع:
وكل مصيبات الزمان وجدتُها
سوى فُرقة الأحباب هيّنةَ الخَطب
فالقلب المسكون بالحب لا علاج له إلا بوصال الحبيب، لأنه هو الذي سبّب هذه الأوجاع، وما أجمل وأروع كلمة الصحيب في هذا السياق فهي مليئة بالحنين والعتاب، فالصحيب هو موطن الحب والثقة ولا يتوقع أن تأتي منه إلا كل المسرّات، فإذا أصبح هو سبب العذاب فقد اختلّ ميزان العلاقة، وأصبح الوجع مضاعفاً.
ثم كانت هذه الخاتمة الحزينة المتعاطفة إلى أقصى حدّ مع هذا الذئب الجريح، فيناديه الشاعر بهذه اللغة الدافئة طالباً منه أن يقترب منه وأن يزداد بَوْحاً بأوجاعه من خلال جُواحه ونواحه وعوائه، تأكيداً على عمق الحس الإنساني في ترانيم سموّه، التي تنتقد أخلاق الجفاء لدى الإنسان، وتجعل من الذئب كائناً يستحق الحديث والتعاطف والسماع منه، كما يسمع الإنسان من أخيه الإنسان:
يــــــــاذيب روس الصــــــــغار مــــــــن الليــــــــالي تشـــــــيب
ومــــــــا شيّـــــــــب صـــــــــغارها، بيشيّـــــــــب كبـــــــــارها
إقـــــرب علـــــى الضـــــلع واطـــــرب مســـــمعي بــــالقنيب
خـــــــــل البشـــــــــر تســـــــــمعك وتشــــــــوف بانظارهــــــــا
وهكذا انبثقت هذه القصيدة الرائعة من لحظة القنيب كصوت مجروح يطلقه الذئب، ثم عادت إليه لتؤكد أن صوت الذئب ربما كان في لحظة من اللحظات أكثر أُنساً من صوت الإنسان، وهو ما عبّر عنه شاعر اختبر الحياة ذات يوم، فقال:
عوى الذئبُ فاستأنستُ بالذئبِ إذْ عوى
وصوّتَ إنسانٌ فكدتُ أطير
البيان