تتواصل العروض الشعبية بمهرجان الحصن الذي يستمر حتى 19 من ديسمبر الجاري، مستلهمة من إرث الماضي روح الأصالة، وعبق التراث المجيد، لتضفي مزيجاً من الإبداع الذي يبهر الحاضرين إلى المكان على مدى أكثر من فقرة في اليوم، حيث تشارك الفرق الفنية بعروض فلكلورية متناغمة مع تاريخ الوطن، حاملة على عاتقها عدة لوحات تراثية ألوانها العيالة والرزفة والحربية، التي لها الأثر الكبير في نفوس المواطنين والمقيمين على هذه الأرض الطيبة.
تضفي المشاركات العفوية من الشباب والبنات مع الفرق الفنية المشاركة، أجواءً مليئة بالفرح والسعادة تغمر النفوس حتى تفيض بالانسجام مع المشهد الفني الحافل بالوطنية، والنابض بالحب والولاء والانتماء للمكان والزمان الذي بدأت منه الفكرة، وانطلقت حتى تستمر المسيرة مغلفة بالفخر والاعتزاز بأنغام الوطن، وسيمفونية الحياة الكريمة.
عروض تراثية ثقافية
قالت سلامة ناصر الشامسي، مدير «قصر الحصن»: من المهم وجود الفنون الثقافية والتراثية في مهرجان الحصن، كونه يعد من المهرجانات الملهمة في المنطقة بما يحمل من تاريخ حافل بالمنجزات الوطنية، والمعجزات القيادية الرشيدة، ضمن حلقة وصل مشتركة ما بين عناصر التاريخ والثقافة المعاصرة والتراث، فجميعهم تحت سقفٍ ومكانٍ واحد، ضمن سياق اجتماعي مريح ومشجع على التواصل ما بين هذه العناصر، مضيفة أن هذه المشاركات الفنية تأتي انسجاماً مع رؤية الزائر الباحث عن جوهر المجتمع وخصوصيته وتاريخه وإرثه. ولفتت الشامسي إلى أن جميع الفرق الفنية المشاركة تقدم عروضاً تراثية ثقافية تعكس روح المنطقة، كونها معلماً من معالم الحياة المحلية، والبيئة الإماراتية، مستعرضة جزالة الساحل، وأصالة الصحراء، التي عاش عليها ابن الإمارات، بالإضافة إلى الاحتفاء بأوجه المدينة الحضرية التي برزت عليها الإمارة نتيجة الرؤى الوطنية الحافلة بالإنجازات.
عفوية الصغار
تفاعل الأطفال مع الفرق الفنية، بابتساماتهم المتناثرة في أرجاء المهرجان، يعطي المكان قيمته العفوية، وثيمته الفطرية التي خلقت لأن تكون حاضرة في المشهد، ويكون التاريخ جزءا لا يتجزأ من فرحة الطفل، وابتسامته البريئة، لتكون حاضرة بكل ألوان السعادة، وبكل ما يتماشى مع رسالة التسامح التي أرستها الإمارات على جبين العالم، وحملها المهرجان على عاتقه، بفعالياته الوطنية، وأنشطته التي تضيف إلى المكان مزيداً من الألق.
«النعاشات»
وتأتي مشاركة الفتيات ضمن فنون العيالة، إبرازاً لجمالية الحضور، ودور الأنثى في تأثيث وجدان الحياة، وشريان الوجود النابض بعفوية المعنى، وشفافية الروح النقية الخالية من الشوائب، مما يعكس الدور المحوري لها في الحياة، وفي ظل وجودها المهم، والملهم في الوقت نفسه. حيث إن الحكايات الشعبية تروي أن الأصل في مشاركة الفتيات ضمن الرقصات الشعبية، وأداء فن «النعاشات»، يعود إلى أيام الحروب والغزوات حينما كن يخرجن من بيوتهن لتشجيع الرجال في مهمة الدفاع والذود عن شرف القبيلة، ومنذ ذلك الوقت يطلق عليهن اسم «النعاشات» في إشارة إلى تمايلهن وتباهيهن بشعرهن الطويل المتطاير في الهواء أثناء الأداء الفني.
واليوم ما يقدمه المهرجان هو إحياء لإرثٍ يمثل قيمة المكان، وثيمة الزمن الذي يعكس صورة المنطقة وتاريخها العريق المستمد من عراقة الماضي، وألق الحاضر، وأناقة المستقبل الزاخر بالمعاني، والأماني المشرقة.
فخر واعتزاز
وأشار حسن عبدالله، نائب رئيس مجلس إدارة جمعية دبي للفنون الشعبية، وقائد فرقة العيالة البحرية، إلى أن المشاركة في المهرجان تأتي ممتلئة بالفخر والاعتزاز فمثل هذا المكان يمثل إضافة للمشاركين، مما يترك من قيمة حصينة في نفوسهم وثيمة رصينة في مشاركاتهم، التي تعتبر شهادة ووساماً على صدورنا، لافتاً إلى أن عروض فرقة العيالة متواجدة طيلة فترة المهرجان، وتستمر بشكل يومي، ضمن أداء تراثي يمكن للزوار التفاعل معه بانسجام تام مع المشهد.
وتابع عبدالله، أن فن العيالة البحرية في مجتمع الإمارات له أهمية كبيرة في النفوس، حيث إنه يتناغم مع البيئة المحلية وتعيد الحضور إلى الزمن الجميل، حيث كانت الاستعراضات الفنية تقدم للدلالة على حشد الهمم والتفاعل الجماعي، مؤكداً أن مثل هذه الفنون تعتبر من أهم المظاهر التراثية بالرغم من أوجه التطور الحضاري الذي يعيشه هذا الجيل، فوجود مثل هذه المهرجانات التراثية العظيمة يرسخ قيمة الماضي، وجمالية العفوية التي كان يعيشها أجدادنا وآباؤنا، مما يجعلنا نتعايش مع أصالة الزمن القديم حاملين على عاتقنا مسؤولية الحس الوطني الرفيع، والشعور بمدى قرب التاريخ من النفس والروح، والعيش في عبق الماضي بروح الحاضر.
جوانب مشرقة
أينما يتجول الزائر في محيط قصر الحصن، يعيش على أنغام الماضي، منسجماً بلحن التراث العريق، بتنوع فلكلوري حافل، ملتمساً بجمالية البيئة الإماراتية ولُحمة الفريج الواحد، وانسجام الناس، والحركة العفوية التي تدب المكان، وسط عروض فنية مفعمة بالموسيقى والأداء الشعبي المتناغم، ليلمس الزائر ألفة الفريج، حين يجد النساء يمتطين النياق ذاهبين في أرجاء الحصن، محملين بالحب والشوق، مفعمين بالأنوثة الناعمة، ولفحات العباءة الإماراتية تتراقص بأنسام الطيب والعبير، منسجمة مع وقع دعسات النياق وهي تمضي بهن ذاهبة نحو أتون وشجون التراث الأصيل.
«الرأس» و«الكاسر»
أشار حسن عبدالله، قائد فرقة العيالة البحرية، إلى أن عيالة أهل البحر قريبة من عيالة أهل البر، وهي عبارة عن رقصة شعبية تتكون من صفين من العارضين يؤدون على وقع الدفوف التي يحملها بعض الرجال، والعازف المتحكم في الإيقاع يسمى «الرأس» ويكون ممسكاً بالـ«كاسر» (طبلة صغيرة تضرب بالعصا).
إبهار العالم
تأتي الفنون الإماراتية التي أضاءت ساحات قصر الحصن ضمن فعاليات متنوعة ونشاطات مختلفة، وأساليب حياة ساعدت في وضع أسس الدولة الفتية التي أبهرت العالم، وقدمت نموذجاً للدولة المتقدمة، وفي الوقت ذاته تعتز بماضيها وتجعله نبراساً ساطعاً في نفوس الناس ووجدان العالم، ليكون مرآتها اليانعة لاستمرار مسيرتها الوطنية في التقدم والرقي والازدهار.
فنون البحر.. بين أنغام «النّهمة» وأيقونة «الحدوة»
تنسجم المشاركات البحرية في مهرجان الحصن بأنغام الطرب الجميل، متنوعة ما بين فن النهمة والحدوة والفنون البحرية الأخرى، التي تسكن في نفوس البحارة والنواخذة في منطقة الخليج العربي بوجه عام والإمارات بوجه خاص، مما يعطي روحاً مستوحاة من البيئة المحلية التي كان لها تأثير كبير على الرحلات البحرية.
«النّهام»
والطرب أثناء السفر في عمق البحار كان من ضمن الأولويات التي يقوم بها البحارة لما له من أثر في نفوسهم ومنحهم الأمل والحياة واسترجاع الذكرى الطيّبة للدار والأحباب، ويسمى المطرب البحري بـ«النّهام»، الذي يعتبره أهل السفن عنصراً رئيساً وأساسياً لتشكيل هذا الفن، بل هو المحور والركيزة التي يقوم عليها الغناء وأداء بقية البحارة على متن السفينة، فهم «الجوقة» أو «الكورس» أو «الكورال» بمفهوم العصر في ترديدهم لكل ما يؤديه النهام، وهو يحثهم ويشجعهم على مواصلة مشوارهم خاصة خلال رحلات الغوص قديماً التي كانت تستمر لعدة أشهر في البحر.
«الخطفة» و«الحدوة»
قال فهد آل علي، المشارك عن فريق النادي البحري بأبوظبي، إن مشاركتنا في مهرجان الحصن تأتي تمثيلاً للتاريخ البحري، ولإرث الأجداد العريق، حيث نقدم للزوار من خلال هذه المشاركة كل ما يتعلق في البحر من عدة فنون مثل فن النهمة بأنواعها «اليامال»، و«الخطفة»، و«الحدادي»، و«المداوي»، و«الفجري»، والعديد من الفنون التي يمارسها البحارة بالإضافة إلى فن الحدوة، لافتاً إلى أن ما يميّز مشاركتنا بالقسم البحري في مهرجان الحصن، استعراض الأعمال البحرية بشكل عفوي حتى يرى الزائر الصنعة القديمة التي عاش عليها الأجداد، ونعمل بحرفية لجلد الحبال، وعمل القراقير، وصناعة الأديّنة، وطرات الليخ، وكل ذلك يكون أمام الزائر حتى يتمكن من معرفة ماضيه والتقرب من المهنة المحلية التي تمثل تاريخ البيئة الإماراتية، ليستفيد الحضور من المعلومات القيّمة والمفيدة.
وأوضح آل علي: إننا من خلال عرض الفنون البحرية من أغانٍ وأهازيج شعبية بمختلف أنواعها، نبيّن للزائر خصوصية البيئة المحلية وعكس الحالة الاجتماعية التي تشكلها هذه الفنون التي حددت جانباً مهماً وملهماً من ثقافة البحر الممتعة والثرية بعفوية الروح وقيمة المعنى، والمضمون المرتبط بالعادات والتقاليد المستلهمة من المجتمع البحري في ذلك الوقت.
رؤى ملهمة
وأضاف علي عبدالله الطواش، المشارك عن فريق نادي تراث الإمارات في القسم البحري، أن مثل هذه المشاركات تعكس رؤية القيادة الرشيدة في إبراز دور الماضي لدى الأجيال وما عمل عليه الآباء والأجداد للنهوض بهذه الدولة الفتية، وكما قال المغفور له، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه: «من ليس له ماض، ليس له حاضر ولا مستقبل»، فالماضي هو أساس الوجود، من هنا جاء هذا المهرجان برؤى ملهمة لترسيخ التاريخ في نفوس الأجيال.
الاتحاد