ريجيس دوبريه… مفكر فرنسي بارز. ولد في الثاني من سبتمبر عام 1940. بدأ سنوات شبابه مناضلاً يسارياً. ترك فرنسا وحياتها كي يعيش مع ثوار أمريكا اللاتينية، وهناك تعرف على تشي غيفارا. عمل في الثمانينيات مستشاراً لشؤون أمريكا اللاتينية لدى الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران، تفرغ بعدها للكتابة. ألف حوالي أربعين كتاباً في الفكر والسياسة والأدب والفلسفة من بينها: «الثورة في الثورة» و«السلطة الفكرية في فرنسا» و«نقد العقل السياسي أو اللاوعي الديني» و«حياة الصورة وموتها» وغيرها.
في حوار أجرته معه هيئة تحرير «نوفيل أوبزرفاتور» منشور في موقعه، يجيب دوبريه عن سؤال: هل من اللازم الدفاع بأي ثمن عن قداسة حرية التعبير وحرية الصحافة؟ بقوله:
لم تكن حرية التعبير أبداً حرية قول أي شيء. فالمادة 11 من إعلان حقوق الإنسان في 1789م تفترض أن من حق كل مواطن أن يعبر عن نفسه «فقط في حدود القانون وبدون تعسف». أما قانون 1881 عن حرية الصحافة فعرف شيئا من الإضافات التي عملنا على تنظيمها اليوم بتسامح سطحي من قبل الرقابة وعدد من الممنوعات؛ حماية القصر، السر الطبي، احترام الحياة الخاصة، منع الحقد العرقي والديني، الإهانة والقدح، الفوبيا اليهودية، العداء للمرأة. ثم إن حرية الصحافة لا تنفصل عن قانون الصحافة الذي يقبع في أغوار عالمنا «الكاثوليكي – العلماني»، وهكذا.. تتوقف حرية كل فرد حيث تبدأ «حماية حقوق الآخرين». بالتالي، لا ينبغي لنا أن نتلذذ بهذه الأسطورة عن الحرية المطلقة، ولنتذكر أن حريتنا النسبية هي نتاج ثلاثة قرون من الصراع المدني، وأن أدنى حالة من حالات الحرب، المعلن أو غير المعلن، تطرح في كل مرة سؤالاً مغايراً. فضلاً عن ذلك، في إقليميْ الالزاس واللورين، وفي ألمانيا وإنجلترا وهولندا هناك مواد تنص أيضاً على عقوبات خرق المقدسات. نحن لا نتخلص بسهولة من الماضي. وقد أعطى تفسخ الدولة قدراً من الحرية للأهواء والتعصب في مجتمعنا المدني.
وحول ما إذا كان من الضروري مضارعة هذه الحرية، حرية التعبير، التي تعد كفتح راهن، يعلق بأنها «أكثر من فتح، إنها
أثيرة، وتتحد مع الاستثناء العلماني. غير أننا لا نسقط أبداً خواصنا الفكرية ونظامنا في العواطف الاجتماعية على نطاق ثقافي له ذاكرة أخرى، تاريخ آخر يؤدي فيه العامل الديني دوراً بنيوياً كالذي أدّاه قبل قرنين أو ثلاثة قرون. لقد رفعنا الخوذة، غير أن الرأس لم يزل كولونيالياً. فهم الآخر ليس أخذ جانب الآخر، من الممكن القول أن قيمنا ليست القيم الوحيدة غير أننا نمتلك بعض الحجج لكي نحتفظ بها. نعلن أن التقويم الهجري أقل بستة قرون من التقويم المسيحي، وأن عصر النهضة في الإسلام سبق العصور الوسطى أو أن نهضة الإسلام انتهت في اللحظة التي بدأ فيها عصرنا الوسيط وأن أول مطبعة في العالم العربي الإسلامي ترجع إلى العام 1821 في مصر. أعلم أن هناك من سيضحك عليّ، دوبريه مناصر للعالم الثالث! ولكن الفهم ليس أمراً مطلقاً. أؤمن بعلمانيتي كما كانت في عصر السعي لتكوين مفهوم روح الدولة قبالة روح الكنيسة الذي بدأ مع هنري الرابع. عارضت لجنة ستازي لقانونها عن الحجاب قائلاً أنها ستجعلنا نواجه الشارع العربي ومجلس الشيوخ الأميركي. إذا كنا نخلع أحذيتنا عندما ندخل إلى مسجد. هذا فقط لأننا نحترم اعتقادات الآخرين حتى نطلب منهم أن يحترموا اعتقاداتنا. نتباهى بتعدديّتنا النقدية، غير أننا نتملك طموحاً مؤسفاً يتمثل في عدم التحاور إلا مع أنفسنا أو مع شرقيين متغرِّبين، على أساس أنهم لا يريدون أن يحكى لهم إلا ما يحبّون سماعه.
هل من الضروري، إذن، الانشغال بأهمية الديني؟ يردّ دوبرييه:
في كتابي «نقد العقل النقدي» أعلنت في 1981 إعادة الافتتان بالعالم. الديني لا ينصهر مع الطائفي. لدينا عقائدنا العلمانية، وعندما تذوي، فإن الجمعي يقوم بها. هل تعرفون مجتمعاً تاريخياً من دون قداسة؟ من دون مجمع، من دون عدم قابلية للمس وبدون عدم قابلية للتصرف؟ بالنسبة لنا، المقدس الديني منزوع عنه القداسة، ممنوعاتنا ومحرماتنا تتعلق بآوشفيتز (معسكر اعتقال نازي) والطفولة والمساواة بين الناس. من يذكرها كلها، حتى بالكلام، على سبيل التجديف الاجتماعي هو (خارج الإطار). المقدس هو ما لا ينتمي إلينا. الناس لا يتقاسمون ما يتجاوزهم. هناك مجتمعات أخرى يتبدى فيها اللا قابل للنفي، إنها مجتمعات حقوق الله. هناك روابط قوية بين الأفراد، بقداسة سامية. لكل ثقافة شقوقها وبراكينها، لكل ثقافة هزاتها الرمزية. نستطيع أن نعيد بناء هذا بالتحليل من دون السخرية. بوساطة التعليم والجامعة. القرية العالمية هي العولمة في بناية حيث في كل طابق أناس لا يتكلمون نفس اللغة. من الضروري أن ندافع عن لغتنا بإصرار، من دون أن نهجر الرقة البين ــ حضارية.

نقد الذات الصريح
يجب أن يشبهنا العالم. إذا لم تكن سويسرياً، إذا لم تنهب الكوكب خلال خمسة قرون، إذا لم تكن متعلماً، متمدناً مثلنا، فأنت همجي. هذا العيب، عيب الحساسية التاريخية لدى متحرّرينا الأنقياء والفظّين يكشف عن وعي استعماري صريح.

الاتحاد