من جوهر سؤال الفيلسوف الفرنسي ميشيل دي مونتين (1533-1592): «عندما ألعب مع قطتي، كيف لي أن أعرف أنها تلعب معي؟» ينطلق الفيلسوف وعالم الاجتماع الأميركي ريتشارد سينيت في تفنيد أسباب حاجتنا في الأزمنة المعاصرة إلى التعاون، ليس كفكرة، بل كحرفة تتطلب من البشر مهارات في الفهم، وإتقان الإصغاء، والتعاطف مع الآخر، وإيجاد نقاط الاتفاق، وإدارة الاختلاف، وتجنّب الإحباط، والاستجابة للآخر، حتى ولو كانت مصالحنا تتضارب مع مصالح الآخرين.
وفي شرح مبررات استعانته بسؤال قطة مونتين لشرح مفهوم التعاون الإنساني الذي يسعى إلى بلورته في كتابه: «في مواجهة التعصب: التعاون من أجل البقاء»، يقول سينيت: إننا لا نفهم دوماً ما يدور في عقول، وقلوب الآخرين الذين ينبغي علينا التعامل معهم. لكن تماماً، وكما استمر «مونتين» في اللعب مع قطته، لعبته الغريزية، أيضاً يجب ألا يمنعنا غياب الفهم المتبادل من الانخراط مع الآخرين، لأن التعاون موجود في جيناتنا البشرية، ونحن كبشر تجمعنا غايات مشتركة، في حياة أكثر إنسانية، وأكثر تماسكاً، وأكثر إنصافاً وعدالة لجميع أفراده.
تسطيح التعاون
ولكن ما الذي يُقلقُ سينيت ويجعله مندفعاً في تفعيل كل أدواته كباحث اجتماعي في الأنثروبولوجيا والتاريخ وعلم الاجتماع والسياسة، لطرح تصور حضاري بديل يقوم على التعاون؟
يقول سينيت: يعتبر العيش مع بشر مختلفين عنا – عرقياً أو إثنياً أو دينياً أو اقتصادياً – أحد أكبر التحديات التي تواجه مجتمعنا اليوم. وقد سهّل الاقتصاد المعولم والتقدّم التكنولوجي تفكّيك التعاون مع الآخر، ليحل مكانه نوع من العلاقات القبائلية التي تبحث عن حالات تضامن مع آخرين مشابهين لنا، وعن أشكال عدائية ضد من هو مختلف عنا. وحديثاً أوجدت وسائل التواصل الاجتماعية أشكالاً من التواصل ساهمت في تسطيح وتفقير التعاون وتعزيز القبلية.
صياغة التعاون
فماذا إذاً يمكن أن نفعل بشأن القبائلية التي يرى المؤلف أنها تهدّد الغرب الليبرالي اليوم، وتدمر الاجتماع الإنساني، وكيف يمكن أن نعيش في وئام وأكثر إنسانية مع آخر مختلف عنّا؟
هنا يجتهد المؤلف الحاصل على جائزة «هيغل عام -2006» في التفريق بين نمطين من التعاون. نمط هدّام من نوع «نحن ضدهم» الذي ينحطّ إلى تواطؤ تآمري ضد الآخر، ونمط آخر يستجيب للآخرين في حياة تعاونية مشتركة متحررة من أوامر من الأعلى، ويتحقق مع مهارات الانتباه، والاستجابة للآخر، والتعاطف والمواساة مع الآخر، والمحادثة الحوارية التي حسب رأي المؤلف، تساعدنا في الوصول إلى فهم قضايا عدة معقدة تواجهنا، فالاستجابة للآخرين تنطوي على غنى، وتؤكد أن إمكانيات البشر للتعاون أكبر بكثير وأكثر تعقيداً، ويجب ألا يمنعنا غياب الفهم المتبادل من الانخراط مع الآخرين، سواء في السلم أو الحرب، لأن هذا النمط من التعاون هو الذي أبقى المجموعات الاجتماعية متماسكة خلال النكبات وانقلابات الزمن.
ويخلص المؤلف إلى القول: في الأزمنة الحديثة (عصر التبسيطات الحداثوية الفظيعة) التي تقمع وتُفسد مقدرتنا على العيش المشترك، لكنها لا تستطيع إزالة هذه المقدرة ولا محوها، إننا قادرون، كحيوانات اجتماعية على التعاون بشكل أعمق من الآفاق المستقبلية للنظام الاجتماعي القائم.
عن الكتاب
يقع كتاب «في مواجهة التعصب: التعاون من أجل البقاء»- ترجمة حسن بحري، في أجزاء ثلاثة، ويتناول بإسهاب كيفية صياغة التعاون، وكيف يمكن تقويته وكيف يمكن أن يعتريه الضعف، لنستكشف في كل جزء منه أشكال التعاون من حولنا، ويعرض حالات مدروسة وملموسة يضعها المؤلف في سياق حواري.
الاتحاد