ما بين سحر البيان وتجليات الألوان، يتسم التداخل بين فنون التشكيلية والأدب بالتكامل والتوازن الجمالي والإبداعي على إيقاع السرد الذي بدأ مع تاريخ البشرية، حيث استخدم الإنسان منذ أقدم العصور الصورة البصرية ثم اللغة المنطوقة فالمكتوبة، للإفصاح عن ذاته وتسجيل خبراته، وتوثيق تاريخ أجداده، وكرسالة بصرية تروي للآخرين حياة الشعوب وتسرد الحقائق الثقافية والتطلعات العامة، كما شهدت أساليب السرد في الفنون البصرية تغييرات في الشكل والوظيفة عبر التاريخ، ما أدى إلى ظهور مصطلحات متعددة للسرد البصري منها «الميتا سرد» المأخوذ من مفهوم السرد المعتاد.
جاذبية
يوضح الكاتب والباحث الدكتور محمد بن جرش: إن مصطلح الفن السردي ظهر للمرة الأولى في منتصف الستينيات من القرن العشرين كونه يعد مصطلحاً شاملاً يمكن تطبيقه على أي فترة زمنية ويتضمن أشكال السرد البصري بما في ذلك التصوير الزيتي، النحت، التصوير الفوتوغرافي، الفيديو، فن الأداء، وقد يرجع العجز عن تفسير فكرة الرسوم البصرية في القصة إلى العديد من الأسباب منها الاختلافات في الثقافة أو اللغة أو السياق وأن عدم معرفة المشاهد للقصة المحكية وهو ما قد يلغي جودة السرد الروائي لهذا المشهد المرئي، لذلك لا بد أن يسعى السرد القصصي البصري عبر فنون التشكيل إن وجد إلى إيصال فكرة العمل المؤهل لهذه النوع من التزامن للمتلقي، وغالباً ما تتسم القصص الخيالية أو الميثولوجيا الأسطورية والشعبية الخرافية بقدرتها وجاذبيتها كمصدر غني بالمعارف ينطلق منها الأديب والفنان التشكيلي لصياغة مضامين العمل.
متن بصري
من جهتها، تشير الكاتبة الشيخة مريم بنت صقر القاسمي، إلى أنها في كثير من الأحيان تجسد التعبير القصصي عن طريق الرسومات، حيث إن التوازي والتداخل بين العمل الأدبي والفن التشكيلي، يسهم في التأثير المتبادل بين المجالين من جهة، كما يسهم في الرفع من مستوى الوعي الجمالي من جهة، ومستوى التلقي لدى المتفاعلين مع أي من المجالين أو معهما معاً، باعتبار أن لا وجود لإبداع في غياب متلقيه. وبالتالي فإن القضية تلزمنا بالتفكير في ذلك باعتبار كل إبداع من أي مجال هو عبارة عن متن، وبالتالي فهناك متنان، الأول سردي، سواء أكان نصاً قصصياً أم روائياً، مؤسساً على اللغة التي مادتها الأساسية الكلمات والألفاظ للتعبير عن وقائعها وأحداثها وشخصياتها، والثاني سواء أكان لوحة أم تمثالاً أم تركيباً أم شكلاً أم صوراً ثابتة أم متحركة، فهو متن بصري، شهد عبر حقبه التاريخية تطورات في أشكال بنائه، وأيضاً مقاربته نصاً يبدو مستعصياً على القراءة، لكنه سرعان ما ينطبع بذاكرتنا ويساعدنا على ولوج عوالمه، وينفتح أمامنا ليكشف لنا أسراره سواء أكان ثنائي الأبعاد أم ثلاثيها.
إبداع متبادل
تعتقد الفنانة التشكيلية عزيزة الحساني أن تناول الفنانين التشكيليين للقصة أعمالهم عبر صيغة تركيبية موحدة، يقتضي تناول الأمر من زاويتين، الأولى جمالية الإجراء، والثانية أدبية الدافع، من منطلق أننا نتحدث عن فكرة اللوحة داخل السرد أو قراءة اللوحة بالرواية أو بالسرد وقراءة النص السردي أو الروائي باللوحة، وهذا الموضوع شكل دائماً عامل جذب لمجموعة من اللقاءات، سواء بالغرب أم بالشرق أم بالعالم العربي، وكذلك على النطاق المحلي أيضاً، هو في نهاية الأمر نتاج تراكم في المجالين يُكسب صفة الثراء من حيث وفرة المواد المساعدة على التناول، أو من حيث الرؤية الناظمة لمقاربتنا، والتي تهدف الاشتغال من أجل الطموح الذي يسكن كاتب السطور في ضرورة استعادة الفن التشكيلي للحقل الثقافي، باعتباره ممارسة ثقافية أساساً، داخل النصوص الروائية والقصصية وداخل الحكاية.
قيم جمالية
يقول الكاتب عبد الواحد علوني عضو اتحاد كتاب السويد: إن هناك علاقة وطيدة بين الفنون والآداب، فكلاهما مرتبط بالقيم الجمالية في كل لون منها، فالجمال يقود إلى الجمال ويعانقه في أي بقعة في الكون، ولذلك غالباً نجد مبدع الأدب ومتذوقه عاشقاً للفنون التشكيلية والبصرية أو العكس، ومن جانب آخر فإن الفن والآداب قد تتبادل التأثير والتأثر الفني فيما بينها تحقيقاً للتكامل الإبداعي الذي يحقق الجمال، وهذا التأثير المتبادل يبدو موضوعياً تماماً ويتسق مع عالم الطبيعة وزماننا المعاصر الذي تداخلت فيه العلوم مع الفنون والآداب وعندما ظهر الفن الروائي والقصصي في عالمنا العربي ابتكر مبدعو الفن التشكيلي رسومات على أغلفة القصص كانت مثابة نص تعبيري بالأشكال والصور موازٍ في جمالياته إبداع النص الروائي.
ثورة التعبير
يؤكد الفنان التشكيلي سيجين جوبيناثان: إن تاريخ النقد الأدبي وأشكال مقارباته يساعدنا على تلمس تكون الصورة في الأعمال السردية، والتحولات التي عرفتها من تصوير للتفاصيل واهتمام بعرض مكونات فضاء المشهد السردي كما علمتنا النصوص الكلاسيكية، إلى اكتشاف أثر تلك التفاصيل على النص وعلى أبطاله، والثورات التعبيرية التي شهدها من سرد خطي إلى سرد انقلابي أو من سرد يصف الحياة الاجتماعية إلى سرد يغوص في أعماق النفس الإنسانية، من نص يحترم قواعد اللغة إلى نص يفجر اللغة باعتبارها الوعاء الذي يصبح حاجزاً أمام نقل الصور البصرية التشكيلية التي تضعنا في حضرة الجمال وفيض الألوان.
البيان