بينما العالم لم يتخطَّ بعد صدمة جائحة كورونا يستفيق على مخاوف من احتمال مواجهة اندلاع حرب عالمية ثالثة تحشد لها قوى الغرب والشرق عقب بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، تكثف الإمارات من جهودها الدبلوماسية لتجنب تداعيات هذه الأزمة أولاً، وإعادة بناء تحالفات قوية عبر الرهان على تحقيق مصالح الخليج ثانياً وإقامة علاقات مع القوى العظمى.
وحسب بحث أعده مركز الشرق الأوسط للاستشارات السياسية والاستراتيجية (MenaCC) ضمن أحدث إصداراته عن تطور «الدبلوماسية الإماراتية في ظلّ تغيرات جيو-استراتيجية»، فإن الإمارات، منذ انتخابها عضواً غير دائم في مجلس الأمن الذي تترأسه مارس الجاري، تسعى إلى تنفيذ فلسفة دبلوماسية وأمنية هدفها الانحياز لتحقيق الأمن والازدهار لشعبها وشعوب المنطقة عبر السلام والحوار السلمي فقط، مدركة أنها بالتنسيق مع المملكة العربية السعودية، قد تفرض قوة تفاوض كبيرة مع المجتمع الدولي لتحقيق مصالح الخليج أولاً، ونجحت الإمارات في اختراق الصمت الدولي تجاه قضايا حساسة تؤرق أمن الخليجيين بشكل خاص.
فمن خلال عضويتها التي تمتد عامين في مجلس الأمن، استطاعت لفت أنظار العالم لمصدر تهديد متصاعد يتمثل بالإرهاب المنتشر في منطقة الشرق الأوسط والمهدد للخليج، والذي تشكّل ميليشيا الحوثي أبرز المسؤولين عنه.
كما تسعى من خلال عضويتها في أكبر منظمة أممية مسؤولة عن ضمان الأمن والسلم في العالم للدفع بقوة لضمان مصالح الخليج. وفي حين ينشغل العالم بتطورات الأزمة الأوكرانية، تمكنت الإمارات التي تمثل صوت دول الخليج في مجلس الأمن من الدفع بتصويت المجلس لزيادة تضييق الخناق على أكبر مجموعة مسلحة تهدد أمن الخليج، وذلك بدعم صدور قرار دولي بتوسيع حظر توريد الأسلحة إلى ميليشيا الحوثي وهو أول قرار في اتجاه حصار الإرهاب وداعميه. فبزيادة التحركات الدبلوماسية التي تنتهجها الإمارات والسعودية يضيق الخناق بشكل أكبر على مصادر التهديدات الإرهابية. وهو أولوية الإمارات طيلة عضويتها في مجلس الأمن عامين مقبلين.
هدف آخر
ويؤكد البحث ذاته أن للإمارات هدفاً آخر يتمثل بموازنة علاقاتها الدولية وتحقيق الاستفادة القصوى لأمن وازدهار شعبها في المستقبل.
ففي حين تستمر العملية العسكرية الروسية الدائرة في أوكرانيا والتي أحدثت انقساماً بين دول العالم بين مؤيدي جبهة الشرق التي تمثلها روسيا من جهة، وحلف الغرب الذي تقوده الولايات المتحدة الداعمة للحكومة الأوكرانية من جهة أخرى، تحافظ الإمارات على ضبط توازن علاقاتها مع القوى العظمى. إذ اتسمت دبلوماسيتها بالهدوء والتريث وعدم التسرع. ونأت بنفسها عن الانضمام في تحالفات بشكل أحادي ساعية للمحافظة على علاقات متوازنة مع كل الدول في الشرق والغرب على أساس مراعاة مصالح الإمارات والخليج أولاً.
ومن هذا المنطلق، تؤكد الإمارات في علاقتها مع إيران على أهمية تعزيزها على أساس حسن الجوار والاحترام المتبادل في إطار المصالح المشتركة، والعمل على تحقيق المزيد من الاستقرار والازدهار في المنطقة، وتنمية العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين الجارين.
وفي سياق متصل، شكلت زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى الإمارات خطوة هامة على طريق تعزيز العلاقات الاستراتيجية المتنامية بين البلدين و نقلها إلى مستوى أكثر تقدما حيث شهدت العلاقات الإماراتية – التركية نهاية العام الماضي نقلة نوعية تزامنت مع زيارة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة لتركيا تلبية لدعوة وجهها الرئيس التركي لسموه لتكون هذه الزيارة محطة رئيسة في مسيرة تعزيز العلاقات بين البلدين و التي ترتكز على المصالح المشتركة بينهما.
وتشهد العلاقات بين الإمارات تركيا تطوراً مستمراً في العديد من القطاعات الحيوية ويعكس هذا التطور حرص قيادتي الدولتين على تطوير العمل المشترك، والتطلع إلى المزيد من فرص التعاون الثنائي، بما يحقق التنمية والازدهار للبلدين وشعبيهما الصديقين.
وخلال استقبال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي -رعاه الله- الرئيس التركي أكد سموه أهمية الزيارات المتبادلة بين قيادتي البلدين لما لها من أثر في إعطاء زخم قوي ومتجدد للعلاقات الثنائية بما يمهد الطريق لمزيد من التقارب الإيجابي ضمن جميع المسارات السياسية والاقتصادية والمعرفية، ويحفّز على اكتشاف قنوات فعالة لمضافرة الجهود الرامية إلى تحقيق الخير والرفاه للشعبين وخدمة تطلعاتهما وتطلعات جميع شعوب المنطقة لمستقبل يعمه الاستقرار والرخاء والازدهار.
أما مع إسرائيل فقد شكل الاتفاق الإبراهيمي خطوة مفصلية نحو إحلال السلام وتعزيز الأمن ودعم الاستقرار في المنطقة. وحققت العلاقات الثنائية بين البلدين تطوراً ملحوظاً في مختلف المجالات والقطاعات تعززه لغة الأرقام. فقد بلغت قيمة التجارة البينية بين الإمارات وإسرائيل أكثر من 3.5 مليار درهم حتى نهاية سبتمبر الماضي وتجاوزت قيمة التجارة الخارجية غير النفطية بين البلدين 2.9 مليار درهم خلال الشهور التسعة الأولى من العام الجاري.
ويقول البحث الذي أعده مركز الشرق الأوسط للاستشارات السياسية والاستراتيجية إن الإمارات عقب انتخابها لعضوية مجلس الأمن، تعمل بالتنسيق مع السعودية على تعزيز مركز ثقل دبلوماسي لمجلس التعاون الخليجي من أجل زيادة توفير حماية مصالح دول وشعوب الخليج عبر التفاوض والتسويات السلمية وليس الصراع والتوتر.
وتابع إن «سياسة إحداث توازن بين التحالفات والشراكات مع القوى العظمى برزت بقوة بعد التحولات التي جرت في علاقات الدول الخليجية مع الحليف الاستراتيجي المتمثل بالولايات المتحدة» وذلك عقب الانسحاب التدريجي للقوات الأمريكية من منطقة الخليج خلال السنوات الأخيرة، وهو ما اعتبرته دوائر سياسية خليجية بمثابة مسار لفك ارتباط جزئي بين الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي على مستوى مراجعة علاقات الدفاع والأمن.
وسعت دول الخليج في السنوات الخمس الأخيرة لزيادة التعويل على قدراتها الذاتية وعلى علاقات متوازنة مع بقية القوى من أجل تحصين نفسها وتقليص بواعث ومصادر عدم الاستقرار والتهديدات الخارجية، إذ تبقى هذه الدول تصنف أكبر منطقة طاقة في العالم، وبلا شك تثير مطامع بعض القوى الإقليمية والدولية الطموحة إلى توسيع نفوذها في المنطقة. استنتاج أدركته سريعاً حكومات الخليج واعتمدت خيار تحقيق هدف الاكتفاء الذاتي في الأمن والدفاع عن مصالحها وصولاً إلى رغبة إقامة علاقات ندية مع القوى العظمى والتفاوض على أساس تحقيق مصالح عادلة.
ضرورة تعزيز دول الخليج للمصالح بعيداً عن الهيمنة الأمريكية رصدت بوادرها تقارير أمريكية مروجة لرفض بعض دول الخليج الانسياق وراء خيارات واشنطن العقابية ضد روسيا، ورفض بعض القادة الخليجيين دعوات الرئيس الأمريكي جو بايدن لانضمام بعض البلدان الخليجية لقائمة الدول التي تفرض عقوبات ضد روسيا. وتستهدف واشنطن إقناع الخليجيين بزيادة ضخ النفط من أجل سد النقص الذي قد ينجم عن أي وقف محتمل للإمدادات الروسية النفطية للسوق العالمية.
قبول دول الخليج لمثل هذا العرض الأمريكي تعي العواصم الخليجية جيداً أنه قد يتسبب لها في توتر علاقات جيدة مع موسكو آخذة في النمو منذ سنوات، حيث يرقب الكرملين عن كثب تطور مواقف وسياسات الدول الصديقة إزاء عمليته العسكرية في أوكرانيا. وقد يُحدث أي اصطفاف خليجي مع أي طرف من أطراف الصراع في أوكرانيا تصدع العلاقات الخليجية سواء مع الغرب أو روسيا. لذلك التزمت الحكومات الخليجية بالحياد إزاء الأزمة الأوكرانية.
السياسة الخارجية
وبعد دخولها أخيراً لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لفترة عامين منذ يناير 2022، تتجه الإمارات لموازنة دعمها للولايات المتحدة وبقية القوى العظمى على أساس تعزيز مصالحها ومصالح الخليج أولاً في الساحة الدولية. ومن خلال الرهان على الحوار والدبلوماسية بدلاً عن أولوية تعزيز القوة العسكرية، تعزز الإمارات شراكاتها التجارية العالمية لضمان استقرارها الأمني والسياسي.
يؤكد بحث مركز الشرق الأوسط للاستشارات السياسية والاستراتيجية أن السياسة الخارجية الإماراتية حققت بلا شك نجاحات كبيرة. فمنذ عام 2004، نجحت الإمارات في فرض نفسها علامة تجارية عالمية على مستوى السلم والتجارة والسياحة والابتكار، ووسّعت من نفوذها الناعم في معظم أنحاء العالم. في فترة ما بعد جائحة كورونا، وهو مسار من شأنه أن يخلق فرصاً جديدة لتعزيز دور الإمارات ومكانتها في العالم.
وقد برز اهتمام إماراتي متصاعد بتعزيز شراكاتها في الشرق الأوسط وأجزاء من أفريقيا. على هذا النحو، تستخدم الإمارات قوتها الدبلوماسية والاقتصادية الهائلة. كما تحرص على تنويع اتفاقيات الدفاع والأمن الخاصة بها. وتراهن على المحافظة على شراكة استراتيجية خاصة مع المملكة العربية السعودية.
أكثر حزماً
المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة أصبحتا اللاعبين الاقتصاديين المهيمنين في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إذ تمثلان أكثر من نصف واردات وصادرات المنطقة. على مدى العقد الأخير، ومع ضعف مراكز القوة التقليدية، أصبحت هاتان الدولتان أكثر حزماً وتأثيراً في الشؤون الإقليمية والعالمية. والأهم من ذلك أنهما تتمتعان بفترة من التعاون الوثيق غير المسبوق. وفي أعقاب ما سمي «الربيع العربي» عام 2011، أقامت السعودية والإمارات تحالفاً استراتيجياً متجذراً في مصلحة مشتركة لضمان الاستقرار المحلي وتفادي الفوضى، وفي عام 2016، تم إنشاء مجلس التنسيق السعودي الإماراتي، ما مهد الطريق لصوغ رؤية مشتركة لتكثيف التعاون الاقتصادي والعسكري.
وبفضل انسجام الرؤية المشتركة للمصالح والتهديدات في الخليج، نجحت الإمارات والسعودية في دعم تحالف استراتيجي بات له ثقل عالمي في صنع السلام والأمن الدوليين والإقليميين. وباتت الدول القوية في العالم تثق بالدور الاستراتيجي للتحالف الإماراتي السعودي أنه عامل استقرار في المنطقة.
في ظل هذه الظروف، تسعى الإمارات لتكييف سياستها الخارجية لتحقيق التوازن بين النفوذ والتأثير العالمي والحاجة للدفاع عن أمنها وأمن الخليج. ويرى مركز الشرق الأوسط للاستشارات السياسية والاستراتيجية أن التهديدات المتصاعدة المتأتية من اليمن ومن ميليشيا الحوثي تثير مفهوم تحديات الأمن القومي الخليجي وخاصة تحديات الأمن على الإمارات. ففي ظل سعيها لحماية أمنها، تفرض الإمارات رؤية مختلفة لحاجة الأمن والسلم، التي تشترك فيها مع أغلب دول الخليج والتي تتبلور خاصة في أهمية زيادة تحصين المظلّة الدفاعية الخليجية ضد الأخطار والتهديدات العسكرية.
وبناءً عليه طوّرت الإمارات فلسفتها الأمنية الخاصة مدفوعة بحالات الطوارئ والأخطار المتزايدة، في المنطقة والعالم على حد سواء، إذ عززت دراسة توقعات الأخطار، بالإضافة إلى دعم المرونة في الاستجابة السريعة للتهديدات الجديدة من خلال القدرة على تقييم التهديدات المحتملة. الحرب واحتمالات الصراع أصبحت حقيقة ثابتة في الشرق الأوسط إذ إن التهديدات العابرة للحدود، بما في ذلك السياق الإقليمي، والحرب في اليمن، وانعدام الأمن في بلاد الشام، تؤثر في الاستقرار العام للشرق الأوسط والخليج، ومن أجل ذلك، تنتهج الإمارات تعزيز سياسة «تحالفات المصالح» مع إعلاء مصلحة الخليج أولاً، إذ تعتمد على توازن العلاقات والشركاء الدوليين والإقليميين.
تعكس الزيارة الأخيرة التي قام بها إلى إيران وفد الإمارات برئاسة سمو الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان مستشار الأمن الوطني تحولاً مهماً في سياسات الإمارات تجاه جيرانها الإقليميين إذ تغلب على سياسة الإمارات الحلول الدبلوماسية التي تستند إلى الواقعية في إدارة سياستها الخارجية لضمان أمنها القومي، بدلاً عن علاقات متوترة ومتصادمة. وباستخدام تأثير قوتها الناعمة والتفاوض من أجل دعم السلام والأمن في الخليج، سعت الإمارات بعد ثلاثة أيام من رئاستها لمجلس الأمن، للحصول على تأييد دولي بشأن وقف مصادر تمويل الإرهاب، وذلك عبر الدفع بتصويت المجلس على توسيع حظر توريد الأسلحة لميليشيا الحوثي.
وقد فرض مجلس الأمن حظر سلاح على هذه الميليشيا. ويوسّع القرار حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة على العديد من قادة الحوثيين ليشمل الميليشيا بأكملها. ولعلّ الخطة المقبلة قد تكون زيادة حشد دعم دولي لاستصدار عقوبات على الحوثيين بعد احتسابهم ميليشيا مسلّحة إرهابية مسؤولة عن جرائم حرب في اليمن وتفرض السيطرة بالقوة العسكرية، وهو ما يتنافى مع مبدأ مجلس الأمن المكلّف بنزع سلاح أي جماعة من شأنها تهديد أمن وسلم الشعوب. ويهدف التحرك الإماراتي لزيادة حصار الحوثيين دولياً ومنع تمويلهم وصولاً إلى زيادة عزلتهم ونزع سلاحهم وفرض منطق الحوار السلمي على قياداتهم كخيار وحيد لحلّ الأزمة اليمنية من دون فرض إرادة غير شرعية عبر منطق استخدام القوة. هذا الملف تسعى دبلوماسية الإمارات لزيادة تدويل أخطاره على مستويات مختلفة، بالاستفادة خاصة من عضوية مجلس الأمن ورئاسته هذا الشهر.
متغير باعث
قرار تمديد حظر الأسلحة المفروض على الحوثيين يعد أول نصر للدبلوماسية الإماراتية في تقييد ومحاصرة جهود تسلّح ميليشيا الحوثي وتقليص خطر وصوله لأسلحة فتاكة قد تهدد الأمن الخليجي برمته. فتصاعد وتيرة التهديدات الحوثية وتطورها من خلال استمرار استخدام طائرات مسيرة والتي تمثل مصادر تهديد مباشر للإمارات وقبلها السعودية، أصبح متغيراً باعثاً على عدم الاستقرار ويفرض تحركاً دبلوماسياً خليجياً واسعاً لتوسيع دائرة الإدانة الدولية لإرهاب الحوثيين.
وقبل سنوات اختارت الإمارات مراعاة موازنة التحالفات مع القوى العظمى. فوطدت العلاقات مع واشنطن والاتحاد الأوروبي. كما عملت على التقارب مع قوى الشرق، وانفتحت على تعاون أعمق مع كل من روسيا والصين. إذ تنتهج الدبلوماسية الإماراتية منهج الشراكة الرابحة المؤسسة على المصالح المشتركة من دون الاصطفاف في تحالفات سياسية لا تراعي الأمن القومي الخليجي الذي بات حسّاساً بشكل غير مسبوق تجاه قضايا تثير قلق القادة الخليجيين.
وتضغط تداعيات الأزمة الأوكرانية بوتيرة متسارعة على الولايات المتحدة بشكل غير مسبوق، وتدفعها لزيادة فرض إجراءات ردعية لموسكو تهدف لحصار ومعاقبة المسؤولين الروس وصولاً إلى ضرب شريان الاقتصاد الروسي عبر شل حركة إمدادات النفط الروسية للسوق العالمية وتعويضها بإمدادات دول نفطية أخرى. هذا الخيار الأمريكي يمثل طموحاً غير قابل للتحقق على المدى القريب في ظل علاقات موسكو المتشابكة مع بقية الدول النفطية في الشرق الأوسط والعالم.
وقد يمثل على سبيل المثال تدخل روسيا كونها أحد أطراف التفاوض بشأن الاتفاق النووي الإيراني عقبة حقيقية في إقناع إيران بأي صفقة بشأن رفع العقوبات من دون ضمانات روسية. إذ يؤثر ثقل روسيا بشكل كبير في مستقبل أي توافق إيراني مع الغرب بشأن برنامج طهران النووي أو مسار رفع العقوبات عن طهران وخاصة على مستوى إمدادات النفط.
في ظل بحث خيارات أخرى لفرض عقوبات غير مسبوقة على إمدادات روسيا ثاني أكبر مصدر للطاقة في العالم، كشفت تقارير أمريكية تحركات دبلوماسية لواشنطن تسعى للتفاوض مع بعض الدول كإيران وفنزويلا فضلاً عن دول خليجية من أجل ضخ مزيد من النفط للسوق العالمية لتعويض النفط الروسي إذا تم حظره أوروبياً، وذلك مقابل رفع العقوبات الاقتصادية عن الحكومات الفنزويلية والإيرانية.
فرضية موافقة إيرانية وفنزويلية لمثل هذه العروض الأمريكية التي قد تضمن تدفق ثروات هائلة على البلدين ولكن قد تمثل طعنة في ظهر حليفتهما التاريخية موسكو، وهو ما تصبو إليه بشدة واشنطن. ولكن أحبطت ردود فعل إيران وفنزويلا المنتقدة لأمريكا سعي واشنطن لإقناعهما بزيادة ضخ نفطيهما بديلاً عن إمدادات النفط الروسي للسوق العالمية التي يسعى الغرب إلى وقفها كعقاب قاسٍ للرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وقد تمثل الهدف من زيادة مرونة الدبلوماسية الغربية في الآونة الأخيرة إزاء إيران وفنزويلا بتفادي خروج التضخم التاريخي لأسعار الطاقة عن السيطرة، وذلك بعد حظر واردات أمريكا من النفط الروسي وتلويح عواصم أوروبية بوقف تدريجي لوارداتها من الغاز والنفط الروسي وخاصة بريطانيا.
مكاسب مزدوجة
وفي حين إن صحّت التقارير عن إمكان وجود مثل هذه الصفقة بدافع ضرورة تطورات صراع الغرب مع روسيا والتي قد تفضي لتسريع حدوث توافقات إيرانية غربية بشأن البرنامج النووي وإمدادات الطاقة ورفع العقوبات، فقد يحقق الإيرانيون والغرب في نهاية المطاف مكاسب مزدوجة من مثل هذه «الصفقة المزعومة»، ولكن في المقابل قد تبدد مثل هذه الصفقة التي ينكرها الإيرانيون والأمريكيون متطلبات الأمن القومي في الخليج والشرق الأوسط إن لم تأخذ في الحسبان فرض مبدأ إلزام طهران ضمانات للدول الخليجية بشأن أمنها ضمن أي اتفاق نووي نهائي معلن مع القوى الدولية.
ولكن هذه الفرضية يبدو أن التصريحات الإيرانية فندتها بشكل حاسم.بعض التصريحات الإيرانية نفت وجود نية إيرانية لعقد صفقة تتنازل بموجبها عن تحالفها الاستراتيجي مع روسيا أو عقد اتفاق نووي خارج التوافق مع موسكو كضامن دولي للاتفاق الإيراني مع الغرب.
ويمكن تبرير عدم واقعية هذه الفرضية بأزمة ثقة تاريخية بين إيران والغرب. فلطالما ردد الزعيم الإيراني علي خامنئي خطابات في أكثر من مناسبة تشير إلى عدم ثقته بالغرب في حين يثق النظام الإيراني بعلاقته الراسخة لعقود مع موسكو.
وكان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، وصف العقوبات الغربية على موسكو بسبب عمليتها العسكرية في أوكرانيا بأنها عقبة أمام الاتفاق النووي مع إيران.
وفي حين عدّه بعضهم أنه معرقل جديد لنجاح المفاوضات كما ألمحت لذلك وكالة «رويترز» نقلاً عن أحد المسؤولين الإيرانيين الذي رفض الإدلاء باسمه، إلا أن بعض الإيرانيين المقربين من النظام يؤيدون توافر مثل هذه الضمانات لطهران في أي اتفاق يفضي لاستئناف إمدادات النفط الإيرانية للسوق العالمية ورفع العقوبات الاقتصادية مقابل الالتزام الإيراني بسلمية برنامجه النووي إذ تداولت وكالات إيرانية نقلاً عن الناطق باسم الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زاده تصريحات مفادها أن نهج روسيا في محادثات فيينا بشأن الاتفاق النووي كان بناء لحد الآن.
ويبدو أن النظام الإيراني يشترط ضمنياً وجود دعم روسيا كأحد أطراف الحوار في محادثات فيينا، إذ لا يثق النظام الإيراني نهائياً بوعود الغرب وذلك بعد فشل استمرار الاتفاق النووي مع الغرب في 2015 بسبب انسحاب إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب منه، باتت إيران تشترط بدورها ضمانات من أجل ديمومة الاتفاق.
واعترافاً بالعلاقة الاستراتيجية بين طهران وموسكو، كان وزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف أعلن في يوليو 2020 عن استعداد بلاده لتمديد معاهدة التعاون لعام 2001 مرة أخرى. في الوقت الحالي، لا تزال تفاصيل الاتفاق المطروح مدة 20 عاماً غامضة، ولكن من المرجح أن يفتح أي اتفاق الباب لزيادة التعاون بين البلدين، وربما يساعد طهران على تحقيق العديد من أولويات السياسة الخارجية.
الأهم من ذلك، أن الاتفاق الإيراني المحتمل مع روسيا يأتي في أعقاب توقيع إيران في مارس 2021 على «خريطة طريق للتعاون» مدة 25 عاماً مع الصين. وللتدليل على الثقة المتبادلة بين الروس والإيرانيين، ذكرت تقارير أنه بعد ساعات من العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في 24 فبراير الماضي، اتصل الرئيس الروسي بنظيره الإيراني إبراهيم رئيسي لإبلاغه بـ«العملية العسكرية الخاصة» لروسيا. وفي الاتصال، أعرب رئيسي عن تفهم إيران المخاوف الأمنية لروسيا. إلى حد ما، يعكس دعم إيران للإجراءات الروسية التحسن في العلاقات الثنائية، التي نمت بشكل كبير على المستويين السياسي والعسكري في العقد الأخير إذ أدى التعاون الروسي والإيراني في الأزمة السورية إلى تنسيق أكبر بشأن الأهداف والمصالح المتداخلة.
ويتضح موقف إيران إزاء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا من خلال التأييد الواضح بشكل خاص لروسيا. على صعيد آخر، تلوح مخاوف من استفادة إيران من علاقتها مع الروس ومن الحرب الدائرة في أوكرانيا لتعزيز إمداداتها التقنية النووية والالتفاف على القرارات الدولية.
علاقات توازن
يقول مركز الشرق الأوسط للاستشارات السياسية والاستراتيجية إن واشنطن تسعى للحفاظ على علاقات توازن قوى في الشرق الأوسط، وفي حين تعمل على استمرار دعم دول الخليج عسكرياً من أجل تعزيز دفاعاتها الا أنها تعمل على ضبط وتيرة هذا الدعم خشية تشكيل دول الخليج تحالف استراتيجي قد يمثل قوة ندية موازية للقوة الأمريكية في المنطقة. وهو أيضا ما قد يمثل مخاطر عالية بالنسبة للقوى الإقليمية الأخرى في الشرق الأوسط وفي مقدمتها إسرائيل وإيران. وبالرغم من معرفتها من أن التعاون المباشر معها لا يحظى بالإجماع الخليجي، تحرص إسرائيل على الظهور كشريك جديد للخليجيين.
واختارت الدولة العبرية التعاون بدل معاداة الدول الخليجية وذلك بسبب تفادي مخاطر تداعيات نمو القوة الخليجية الموحدة، وأيضا بهدف ضمان جبهة مشتركة ضد سياسات إيران في المنطقة. وعلى صعيد آخر، ففي الوقت الذي تأمل فيه دول الخليج من حليفتها واشنطن زيادة الضغوط والعقوبات على إيران وصولاً إلى انتزاع برنامجها النووي الذي يشكل تهديداً قائماً لأمن دول الخليج إذا صحّ امتلاكها له مستقبلاً، يعتمد البيت الأبيض سياسة المناورة والتفاوض مع طهران لتحييد فكرة تطوير سلاح نووي والسماح لها فقط بالطاقة النووية النظيفة مقابل تخفيف العقوبات وتحسين تموقعها الدولي قوة إقليمية صناعية وزراعية وفي مجال الطاقة.
لقد باتت الإمارات عنصراً أساسياً مع السعودية في حماية المنطقة وملء الفراغ المترتب عن الانسحاب الأمريكي العسكري الجزئي من الشرق الأوسط بدافع إعادة الانتشار العسكري الأمريكي الخارجي نحو آسيا. وكدليل على دعم واشنطن لاستمرار تحالفها مع الإمارات، يبدو أن إدارة الرئيس جو بايدن لا تعارض عقد صفقات عسكرية مع الإمارات كما أشادت إدارة بايدن بالإمارات باحتسابها شريكاً أمنياً رئيساً للولايات المتحدة. وبالمقابل تعززت علاقة روسيا بالإمارات بشكل كبير في السنوات الأخيرة.
وفي يونيو 2018، أبرمت روسيا اتفاقية شراكة استراتيجية مع الإمارات، مهدت لزيارة الرئيس الروسي إلى الإمارات في أكتوبر 2019. وشهدت العلاقات الإماراتية الروسية نقلة نوعية بإعلان الشراكة الاستراتيجية بين البلدين في عام 2018، إذ تعزز التعاون بين البلدين في العديد من المجالات ذات الاهتمام المشترك بفضل حرص قيادتهما. وإلى جانب تعاونهما في قطاعي الطاقة والدفاع، تقاربت مواقف روسيا والإمارات من الأزمات الإقليمية بشكل ملحوظ في العام الماضي إذ تأمل الإمارات أن يترسخ تعاون مثمر في توحيد الرؤى مع الروس بشأن التعامل مع التهديدات المحتملة.
وجهة حيوية
بفضل الرؤية الحكيمة للقيادة الرشيدة في الإمارات، وحرصها الدائم على بناء علاقات إيجابية مع دول العالم كافة وتعزيز التعاون في المجالات المختلفة، أصبحت الدولة وجهة سياسية واقتصادية حيوية جاذبة على خريطة العالم تستقبل بحفاوة على أرضها القيادات السياسية الإقليمية والدولية، وتسعى إلى تبادل وجهات النظر معهم حول مختلف القضايا، بما يحقق الاستقرار والازدهار للجميع.
البيان