د. منصور أنور حبيب

يتيح لك فرصة التعرف على الكثير من الأصدقاء، فبسببه أنت كل يوم عند طبيب جديد.. يوفر عليك شراء العطور والعود، يوفر وقتك ويوفر عليك شراء الملابس الرياضية، لأنك بصحبته ستصبح عدو الرياضة الأول. لا داعي لتركيب نظام أمني في المنزل، فسعالك الناتج عنه طول الليل يجعل اللصوص يظنون أنك ما زلت مستيقظاً.. وأخيرا وليس آخر، يوفر على ورثتك مشقة الانتظار.
لقد عرف التدخين منذ ما يقارب 500 عام فقط، عندما اكتشف “كريستوفر كولومبس” القارة الأميركية في عام 1492م، وكان معروفا قبلها في المكسيك منذ 2500 عام تقريبا. وعلى قول المثل “شر البلية ما يضحك”، فإن أول من أدخله إلى أوروبا هو طبيب إسباني، أرسله الملك فيلب الثاني ملك إسبانيا في رحلة استطلاعية للمكسيك، فعاد ومعه نبات التبغ! لكن سفير فرنسا في البرتغال (جان نيكوت)، هو من أرسل هذا النبات إلى ملكة فرنسا، وأصبحت المادة السامة في هذا النبات تسمى “نيكوتين” نسبة إليه.
عجيب أمر الإنسان.. بمجرد معرفته ضرر مادة ما, يقبل عليها بكل قوة، ويخلق المبررات الكافية لدعم قضيته. فبالرغم من وجود ما بين 4000 إلى 6000 مادة كيميائية في نبات التبغ، منها على الأقل 40 مادة من مسببات السرطان عند الإنسان, استطاع الإنسان بحنكته وفطنته مناورة هذه المواد وعدم الاكتراث لها، ولسان حاله يقول: الكثيرون كانوا مدخنين لعقود ولم يصبهم أذى, وهكذا سأكون أنا!!
بالإضافة إلى القطران، وهو مادة صمغية سوداء تستخدم في تجهيز إسفلت الشارع, يحتوي التبغ على مركبات الأمونيا (الأمونياك)، والتي تؤدي إلى التهاب الغشاء المخاطي للعين والفم والحنجرة والقصبة الهوائية، وهي السبب في حدوث السعال والبصاق عند المدخنين. وهناك أول أوكسيد الكربون، الذي يتولد في دخان التبغ بنسبة تتراوح بين 1-14%, وهذا الغاز سام إذ يتحد مع الهيموغلوبين ويقوم بوقف قابلية الدم لحمل الأوكسيجين.
ولهذا فإن المدمنين على التدخين عادة ما يكون نفسهم قصيرا. لكن ملك المواد هو النيكوتين.. كمية النيكوتين الموجودة في سيجارة واحدة، كفيلة بقتل إنسان في أوج صحته لو أعطيت هذه الكمية من النيكوتين بواسطة إبرة في الوريد (عن تقرير الكلية الملكية للأطباء في المملكة المتحدة). فبسببها تتزايد دقات القلب، ويترسب الكوليسترول في جدران الشرايين وتبعاتها المعروفة للجميع.
أما تدخين الشيشة، والتي تعادل بدورها حدود علبة كاملة من السجائر العادية، فوضعها مختلف.. فهي السبب الرئيس للتواصل الاجتماعي وتعزيز صلة الرحم, وبقربها يلتقي الأصدقاء بعد عناء يوم طويل من ضغط العمل والاختناقات المرورية, وبسبب نكهاتها المختلفة جعلت الجنس اللطيف يأنس لها.
حب التجربة, إثبات الذات, تقليد أعمى.. وتطول قائمة مسببات البدء بهذه العادة الممتعة. دراسات كثيرة أجريت وبحوث عديدة تعمقت في سبر أغوار هذه الظاهرة، لكن يبقى لغز الإصرار على الاستمرار موجوداً!
وهب الله عز وجل الإنسان أكبر نعمة وهي العقل, والتي عندما يتم توظيفها لخير الإنسان وصالح البشرية تجعل من الأسود أبيض. ففي الوقت الذي تحذر فيه الأمم المتحدة من مخاطر الإعلان عن السجائر في وسائل الإعلام كافة، وتنادي بوقف هذا الخطر الذي يغزو 78% من الشباب على مستوى العالم، يعمل فريق من الباحثين والعلماء المختصين على تحويل التبغ إلى وقود حيوي، من خلال تعديل جيني يعمل على زيادة نسبة الزيت فيه، والذي يمكن تحويله فيما بعد إلى مصدر طاقة للمركبات.
قد يبرز أخيرا سبب يجعلنا نستفيد من هذا النبات الأخضر – الذي يجعل صدور آبائنا وأبنائنا أشبه بالمحاجر السوداء – وتحقيق فائدة تسهم في تحسين إنتاج الوقود عالميا، والحد من تكلفته العالية.
في هذه الحالة فقط يمكننا تشجيع إنتاج مزيد من التبغ، عندما يتم توظيف إنتاجه بطريقة سليمة تفيد في تقدم البشرية، لا سيما مع تأكيد العلماء أن هذا النبات ضار للإنسان. ولكن هناك بنية تحتية عالمية جاهزة لزراعته وحصاده وإنتاجه، وهو يعد خيارا ممتازا لإنتاج الوقود الحيوي، الذي يتجاوز إنتاجه اليوم 100 مليار لتر عالميا، يتم استهلاك ما يقرب من 3% منها في النقل البري الدولي.
ما رأيكم أن نقاطع شركات السجائر، لكي نحافظ على نبات التبغ من التلف ونجعله أحد مصادر الطاقة المتجددة لأجيالنا؟ أم نرمي بهذه الأبحاث البالية عرض الحائط ونتسابق لشراء الواجهة الأمامية من المقبرة؟

البيان