يسجّل للقائد المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان «طيب الله ثراه» أنّه قاد خلال مسيرته في حكم دولة الإمارات العربية المتحدة، أعظم مشروع قومي – الثورة الخضراء – تمثل في غزو الصحراء، عبر منظومة زراعية نوعية انطلقت مع تولّيه حكم أبوظبي عام 1966، ونجح في زراعة قسم كبير من الصحراء بأشجار النخيل، مرفقا ذلك بإنشاء عدد من السدود، وتحلية مياه البحر، وتدريب المزارعين على هذا النوع من الزراعة وطرق ترشيد المياه.
معجزة زايد
وكان الأب المؤسس الشيخ زايد يشرف بنفسه على زراعة النخيل وغيرها من أنواع الأشجار الأخرى، ويذكر أنه أمر بزراعة شارع المطار القديم ب 600 نخلة، ليكون أول شارع يزرع بهذا العدد من النخيل، ثم أمر بزراعة الأشجار والورود لتمتد إلى قصر الشاطئ، فزينت بها الشوارع، والمتنزهات، والبيوت، والمدارس، وغيرها. ونتيجة لهذه السياسة المستشرفة الحكيمة أصبحت الإمارات تضم أكبر عدد من أشجار النخيل، واستمر العدد في زيادة مطردة، وهو ما أهل الإمارات لدخول موسوعة «غينيس» للأرقام القياسية في عام 2009، كأغنى دولة في العالم من حيث عدد شجر نخيل التمر، إذ قدر حينذاك بأكثر من 40 مليون و 700 ألف نخلة.
إن ما حققه الشيخ زايد «طيب الله ثراه» ودون الدخول في التفاصيل، من إنجازات زراعية وبيئية على أرض الإمارات على مدى أكثر من ثلاثة عقود من الصبر والكفاح ومواجهة التحديات أشْبَه بالمعجزة، وعلى المرء أن يتخيل ملايين الأشجار التي غُرست في صحراء الإمارات، وبها تحولت مئات الآلاف من الهكتارات الجرداء إلى غابات ومزارع خضراء ومزارع وارفة الظلال. ومن ذلك التاريخ أخذت الزراعة منحى آخر في أبوظبي وبقية الإمارات، باعتبارها مبعث الاستقرار ومصدر الأمان والطمأنينة، كما أصبحت واحدة من دعائم الاقتصاد الوطني وعنوان الحضارة ترجمة لمقولة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه: «أعطوني زراعة. أضمن لكم حضارة».
ويتفاخر الإماراتيون اليوم بالمساحة الخضراء الواسعة التي تغطي جزءا كبيرا من أراضيهم الصحراوية، ضمن أكبر قصة نجاح قامت تحت شعار من أجل ثورة خضراء من خلال زراعة النخيل، ويحق لهم أن يتفاخروا بإنجازهم، فقد استطاعوا خلال مدة وجيزة أن يزرعوا الملايين من أشجار النخيل عالي الجودة في أجمل تشكيلة من اللون الذي يتمازج مع البحر وحداثة الطرق وطرز البناء المعاصرة.
جوائز ومهرجانات
ومن أبرز مظاهر الاهتمام بالنخلة والاعتزاز بها، إنشاء «جائزة خليفة لنخيل التمر والابتكار الزراعي» التي تأسست في يوليو 2007، بتوجيهات ورعاية كريمة من صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة «حفظه الله» وقد صممت الجائزة تقديرا وتخليدا للشجرة المباركة والعاملين في قطاع نخيل التمر سواء في دولة الإمارات العربية المتحدة وأي دولة أخرى حول العالم، وذلك احتفاء بالجهود المتميزة التي تبذل لتطوير قطاع النخيل من أجل تنمية مستدامة لنا وللأجيال القادمة. ويتصل بالجائزة جملة مساع وأهداف لتنمية ودعم البحث العلمي الخاص بتطوير شجرة النخيل من جميع جوانبها، ثم إبراز مفردات النخلة التراثية كجزء من الهوية الوطنية للدولة، ونشر ثقافة الاهتمام بنخيل التمر على المستوى المحلّي والإقليمي والدولي.
في سياق آخر أرست الدولة دعائم تنظيم مهرجان خاص للاحتفاء بتمور النخيل في الدولة يعرف بـ «مهرجان ليوا للرطب»، وتقام فعالياته في مدينة ليوا، في مدينة الظفرة بأبوظبي، في شهر يوليو من كل عام، وبتنظيم من لجنة إدارة المهرجانات والبرامج الثقافية والتراثية بأبوظبي، وبات المهرجان بعد سلسلة من نجاحاته الاستثنائية يشكل ملتقى تراثيا وشعبيا فريدا لعشاق النخيل والرطب من أفراد ومؤسسات وهيئات، وحالة تراثية ثقافية شاملة لمختلف ألوان الفنون، وإنعاش المجالس التراثية واستعادة لمظاهر عديدة من الموروث الشعبي ذات الصلة بالنخلة.
السعف العريق
تمثل النخلة للإماراتيين قيمة معنوية وإنسانية كبيرة، فقد رافقتهم خلال رحلة المعاناة وضيق ذات اليد وشح الموارد، وتحولت لمصدر فخر واعتزاز لهم منذ القدم، وجزءا مهما من الموروث الشعبي، والنخلة بالنسبة لهم كنزا لا ينضب، تمرها غذاء، وسعفها إيواء، فقد كان الأجداد يأكلون مما يزرعون ويلبسون مما يصنعون بأيديهم، معتمدين على خيرات البيئة والطبيعة، وعزيمتهم في استثمار أمثل لكل ما تحتويه من مواد.
وشكّلت بيوت السعف في الإمارات نمطاً معمارياً متميزاً، عكس حياة المكان في بداياته، بين الساحل والصحراء. يقول الباحث عبد العزيز الشّحي: «بيت السعف: هي تلك البيوت التي بنيت من سعف وجذوع النخيل، وتنقسم أنواعها إلى: بيت العريش، وخيمة مجردة، وخيمة قصايب، وخيمة مكبة، والغرفة، وعريش مخيّد أو محيب، والعشة». وأشار إلى أن أجواء الحرارة الشديدة والرطوبة العالية التي اتسمت بها المنطقة كانت عاملاً مؤثراً في اللجوء إلى هذا الأسلوب المعماري، مبيناً أن كلفة البناء كانت بسيطة، لتوفر المواد والخامات من خلال البيئة المحيطة التي اشتهرت بزراعة النخيل.
حرف وصناعات
دخلت مكونات النخلة في صناعة الأدوات التقليدية لري المحاصيل الزراعية، ويقول سالم سعيد الحوسني، الخبير بالشأن التراثي: ارتبطت النخلة بحياة الماضي، وتميزت البيئة الزراعية بالحرف التقليدية التي اعتمدت في أدواتها على النخلة، فدخلت مكونات النخلة في صناعة الأدوات التقليدية لري المحاصيل الزراعية، فقد اعتمد الرعيل الأول من مزارعي الإمارات في ريهم للأراضي الزراعية على أدوات تقليدية، تسمى «اليازرة» وتعتمد في صناعتها على جذوع أشجار النخيل، حيث يتم تثبيت أربعة جذوع طوال، وتوضع عليها بكرة لتسهل عملية سحب الثور للحبل، وفي آخر الحبل المجدول يثبت دلو أو اثنان لسحب المياه من جوف الآبار في المناطق الساحلية، وتسمى الحفرة الأفقية المملوءة بالمياه «الخب».
وقد ساهمت النخلة في تكريس بعض المهن والحرف التراثية، مثل «السفافة» حيث اعتمدت المرأة الإماراتية في الماضي على صنع أدوات منزلها من سعف وجذوع النخل، ومنها المكب أو المكبة، وهو غطاء هرمي يصنع من نوع خاص من خوص النخيل، وتغطى به الفوالة أو صينية الطعام لحفظ ما فيها من طعام عن الحشرات، والجفير هو السلة المصنوعة من خوص النخيل، ليستخدمها أهل البحر في حمل الأسماك، فيما يستخدمها أهل البر في حمل الرطب، فضلاً عن صناعة السلال والمراوح والحصائر والسرود وهو حصيرة دائرية كانت توضع عليها أطباق الأكل. ومما يتصل بالنخلة ومكوناتها، ما استخدمه أهل الإمارات من أدوات كثيرة من الخوص كالميزان ويكون في العادة معلقا على طرفي عصا طويلة ومربوطا بخيوط قوية ويستخدم لوزن التمر والرطب، واستخدامهم لأسرَّة الأطفال الصغيرة المصنوعة من الجريد ليسهل حمل الطفل.
موروثات شعبية
دخلت النخلة في جوانب الحياة المختلفة عند الإنسان الإماراتي، ومن ذلك الألعاب الشعبية، فلعبة «حيل يريد» وهي لعبة جماعية للأطفال، تعتمد على سعفة النخيل، حيث يضعها اللاعب بين الرجلين، ويمسك مقدمتها بيده اليمنى وعصا بيده الأخرى تستعمل لضرب السعفة من الخلف أثناء عملية الجري، و«القرقعانة» تتكون من عزق النخيل، ويشرخ إلى ثلاثة شروخ، ويمسك الصبي بمؤخرة العزق ويحركها بقوة، وأثناء ذلك تحدث صوتاً قوياً.وربط الناس في مناطق عديدة من الإمارات، في إطار موروثهم الشعبي، ما بين النخلة والناقة وقالوا: الله اخرج لنا حليبا من الناقة من أصل الدم، والله اخرج لنا التمر من جذع أصم. وقالوا أيضا: اللبن والتمر هما فضل من الله تعالى، حتى إذا وضعا طعاما لضيف حققا غاية الكرم والنفع، فهما ركيزتان أساسيتان لا يعلوهما طعام أو زاد، كما قالوا لا يرمى شيء من النخلة، فكل شيء فيها مصدره فائدة واستخدام ومنافع عدة، فمنها استخرجوا زيوتا للطعام وهي زيوت النخيل، ومن بقايا تمورها استخرجوا مادة غنية سموها (النفيعة) وجعلوا منها طعاما لمواشيهم ودوابهم، كما ارتبط النخيل بذكريات جهود الأقدمين وبراعتهم في طرق ووسائل خدمة هذه الشجرة المباركة والعناية بها، وذلك كونها شجرة الحياة، فهي ترمز إلى سخاء العطاء والخير والرزق الوفير والخصوبة والنماء.
الحديث يطول عن سيدة الأشجار النخلة، لكنها ستبقى وفي مختلف المقاييس والظروف تمثل «ثروة وطنية» مهمة في الدولة، ولها تقدير خاص واحترام عال ليس كمصدر للغذاء فقط ولكن لارتباطها النفسي والثقافي بالإنسان الإماراتي؛ لذلك اعتمدت كشعار لكثير من الدوائر والهيئات ولا يكاد يخلو أي متنزه أو حديقة أو شارع أو منزل من وجود هذه الشجرة المباركة.
نخل في المريخ
في تجربة علمية بحثية هي الأولى من نوعها في العالم، أعلنت وكالة الإمارات للفضاء عن إرسال نوى من شجرة النخيل إلى محطة الفضاء الدولية، لدراسة مدى تأثرها ببيئة الفضاء وبحث إمكان زراعتها في كوكب المريخ مستقبلاً. وتأتي التجربة ضمن مشروع «تجربة النخلة في الفضاء»، الذي يسعى للوصول إلى إمكان زراعة النخيل على سطح المريخ من خلال إرسال بذور هذه الشجرة كمرحلة أولى إلى محطة الفضاء الدولية لإجراء الاختبارات عليها، ثم إلى المريخ لزراعتها في مراحل مستقبلية.
الاتحاد