لا يرتبط الانتقال الثقافي والحضاري الجديد لدى أي شعب من الشعوب الحيّة، أو النامية، بأجندة دورية زمنية تتحدد بسنة أو بسنوات قليلة، بل بمراحل قد تمتد إلى عقود طويلة بحالها، وخصوصاً أن تحولات الشأن الثقافي والإبداعي والنظري النقدي وكل ما يتعلق بالعلوم الإنسانية على اختلافها، وحتى العلوم الوضعيّة والدقيقة، هي تحولات ذات أبعاد بطيئة إجمالاً، تستولد جديدها عبر أسئلة كبرى ومفارقة، تحددها حركة الحياة الإبداعية نفسها من خلال رموزها الفكرية والعلمية الجدية والقاطعة مع المراوحات التقليدية السائدة. وعليه لا شيء حتى الآن، تغيّر أو سيتغيّر في العام 2020 على المستويات الثقافية والعلمية، عربياً وعالمياً، عما كان عليه في العقود السبعة الأخيرة الفائتة؛ والتي شهدنا خلالها، وتحديداً في الثمانينيات من القرن الماضي، ما سُمّي بعصر الصناعة الثالثة أو الثورة الرقمية، والتي أشّرت، ولا تزال تؤشر، إلى انفجار تكنولوجيا الأجهزة الإلكترونية والميكانيكية التناظرية، وسريان استخدام الكومبيوتر الشخصي والإنترنت وتدفق تقنية المعلومات والاتصالات على نحو هائلٍ ومستمر بـ«تعقيداته» إلى اليوم.
وكذلك شهدنا في العام 2016 قيام ما سُمّي بعصر الثورة الصناعية الرابعة، والتي استندت في واقع الأمر إلى ما سلفها من ثورة رقمية تميزت بها الثورة الصناعية الثالثة، مع فتح جديد للتكنولوجيا اخترق حياة الإنسان والمجتمعات على نحو بانورامي أوسع وأكثر تطوراً، وخصوصاً لجهة استحداث ما بات يسمى بحقائق الروبوتات، والذكاء الاصطناعي، والنانو تكنولوجي، والطباعة ثلاثية الأبعاد، والأتمتة الذكية، والبلوك تشين، وإنترنت الأشياء الذي هو عبارة عن ربط مختلف الأجهزة التي نستخدمها في حياتنا اليومية (تلفزة، ثلاجات، مكيفات، غسالات كهربائية، استيريوهات موسيقا، مثالاً لا حصراً) بعضها ببعض عن طريق الإنترنت، وجمع بيانات من هذه الأجهزة لبرامج معينة، وهذه البرامج نفسها تقوم بدورها بتحليل هذه البيانات وإرسال أوامرها مرة أخرى لهذه الأجهزة، كي تتصرف بالخدمة المطلوبة منها، دون الرجوع إلى الجنس البشري.
وثمة من بدأ يتكلم، منذ عامين فقط، عما يسمى بـ«الثورة الصناعية الخامسة»، أي عصر ما بعد الذكاء الاصطناعي، حيث أشارت دوريات علمية في بعض الدول الغربية، ولاسيما في الولايات المتحدة، عن تحويل الجسد البشري نفسه إلى تكنولوجيا معززة بقدرات مضاعفة، ناتجة عن زرع شرائح صناعية مدهشة الإعجاز في أدمغة البشر، وتحت جلودهم، من شأنها بلورة إنسان جديد، مضاعف العمر، ومضاعف الذكاء.
هكذا أوجد النوع الإنساني لنفسه، كما يقول الفيلسوف الألماني الكبير يورغن هابرماس، تحدياً مع النتائج العلمية والثقافية والاجتماعية للتقدم التقني ذاته، ليس لتحسين مصيره الاجتماعي فقط، وإنما لكي يتعلم التحكّم فيه.
هذا على مستوى العلم والتقنية وثورة الاتصالات والعصر الرقمي المفتوح في العام 2020، حيث لا شيء سيتجاوز السائد (كما أسلفنا) باختباراته، اللهم إلا الاختبارات ذاتها، وما سينتج عنها من تطورات لاحقة في سنوات لاحقة، مقدّرة بزمن يمتد إلى نهاية القرن الحادي والعشرين، بحسب خبراء التقنية الكبار، ومنهم الأميركي من أصل ياباني ميتشيو كاكو، حيث ستكون الآلة الذكية، بل الأشد ذكاء، أي الروبوت، قد أطبقت بشكل كامل على حياتنا كبشر، وهو إطباق نتمناه ألا يخرج عن السيطرة والتحكّم، لأنه إذ ذاك سيدمر فينا، وبأيدينا، خصيصة الجينوم البشري الذي يحتوينا ونحتويه. ومن هنا يقترح ميتشيو كاكو وضع رقاقة داخل «دماغ الروبوت المتكامل التطور»، كي لا يصير خطراً مدمراً للإنسان والعالم.
موت الثقافة في الغرب
أما على مستوى الثقافة والأدب والنظرية النقدية والتفكّر الفلسفي، فلا يزال الحال في الغرب يراوح مكانه أيضاً، ولا زلنا نحن العرب الذين نتقفّى أثر هذا الغرب نفسه بمجمل أسئلته الثقافية والنقدية والإبداعية (بالمعنى الإجمالي طبعاً وليس الفردي) على نحو متعثر، نراوح مكاننا أيضاً، على الرغم من كل مظاهر الحداثة والتحديث التي نسير في فضائها التجريبي العام، ولم نشارك، طبعاً، في صنعها وبلورة أنساقها بوجه عام.
وهذه المراوحة الثقافية الغربية أطلق عليها الروائي البيروفي الشهير ماريو فارغاس يوسا عبارة مماثلة أقوى وأصوب عندما قال «موت الثقافة والسياسة في الغرب»، وذلك في دردشة أجريتها معه في بيروت قبل أعوام على هامش زيارته للبنان، بدعوة من مركز سرفانتس الثقافي في العاصمة اللبنانية.
تجدر الإشارة إلى أن الروائي يوسا كان أصدر كتاباً في هذا الشأن تحت عنوان: «ملاحظات على موت الثقافة.. مقالات حول المشهد والمجتمع»، قال فيه إن الأدب بدأ يتراجع أمام هجمة صناعة الترفيه السطحي التي يتولاها كبار تجار أوروبا والعالم، بدعم من سياسيين غربيين بات أغلبهم أقرب إلى المهرجين منهم إلى رجال السياسة المثقفين والمسؤولين عن غنى صورة حضارة الغرب وتراثه الإنساني والرمزي العريق. إنهم يقدمون أنفسهم بلا مرجعيات أخلاقية تذكر، ما يجعل الثقافة الغربية الراقية تتراجع أمام سيطرة الثقافة الشعبوية السطحية التي توائم صناعة الترفيه التي تسم بميسمها الثقافة الأوروبية وتنزع عنها أي جدية إبداعية تذكر.
ويتابع ماريو فارغاس يوسا قائلاً إنّ موتاً سريرياً يشهده الأدب الأوروبي والغربي العام اليوم، ومعه، بشكل أو بآخر، حركات الفكر والنقد وأطروحات التفلسف التي باتت لا تجدد حتى أسئلة «مدرسة فرانكفورت» الفلسفية، التي طرحت أفكاراً مهمة لتحقيق التنمية الفكرية والثقافية للمجتمع الأوروبي، والتي تسمح بدورها للتغيير الاجتماعي بأن يأخذ مداه على مستوى العقلانية، ونقد الفكر الشمولي، وحتى نقد حراك التنوير نفسه (خصوصاً مع فلسفة ماكس هوركهايمر)، من موقع أن لا شيء يبقى عصيّاً على النقد؛ كفعالية ثورية جدلية حقيقية تجمع بين الماركسية والهيغلية وتعاين جدل العلاقة بين النظرية وممارستها (أي مطلق نظرية كبرى فاعلة ومتفاعلة هنا) في الواقع الاجتماعي.
من جهة أخرى، إن أفكار ماريو فارغاس يوسا ليست بعيدة عن أطاريح حركة ما بعد الحداثة التي تعتبر استمراراً للفكر الغربي نفسه، في ضوء مراجعة وتقييم مآلات الحداثة الغربية عينها، التي أفضت إلى ما يسميه جورج ف. هاملتون بـ«المتاهة الذهبية» التي تظلّ تغرينا لنتغيّا أنساقها باستمرار، حتى ولو في الفضاء التنويعي الواحد والمتكرر إياه.
وفي نقده العام للغرب يحرص ماريو فارغاس يوسا على «أن نتحرك جميعاً: الروائي، الشاعر، الناقد، عالم الاجتماع، المفكّر المتفلسف، كل من موقعه، للنظر الانقلابي في الأمور الطغيانية من حولنا، علّنا نجترح شيئاً يجنبنا المزيد من السقوط الاستلابي في آليات ما بات يسمى بالعصر الرقمي المفتوح، الذي يتنازع حتى بقاءنا، ويجرّد المثقف من دوره، ويجعله مجرد موظف صغير في بنية الآلة الجارفة الكبرى: التكنولوجيا ووسائطها كافة، حيث تأخذ دور السيطرة الاجتماعية والتحكّم، ولا تنتج، بالتالي، سوى الإنسان النمطي أو الإنسان الزجاجي الهش».
ومن جهة أخرى، ثمة مفكرون وعلماء اجتماع غربيون رموز يرون أنه ما زال هناك دور فاعل للمثقف، على الرغم من تسونامي العصر الرقمي الذي يطيح بكل المواقع والأدوار المتعارف عليها للمثقف العضوي، أو الطليعي، أو التنويري (سمّه ما شئت) في مجتمعات الغرب والعالم، وعلى رأس هؤلاء عالم الاجتماع الأميركي ألفين وارد غولدنر، الذي يرى أنه ما زال بوسع المثقف الإمساك بالدور المركزي للفعل الثقافي، بوصفه المنتج المباشر له، حتى وإن استخفّ به، وقيل بأن لا جدوى من دوره بعد اليوم.
لكن على المثقف المعني هنا أن يظلّ على تحدّيه الصلب لكل ما يجابهه من تطورات، وأن يظلّ يذكّر بأن مملكة العقل الحيّ، هي الأقوى على الدوام من مملكة التشييء والتعليب وإنتاج «الإنسان الزجاجي». وفي مطلق الأحوال، سيظل عناد التغيير الإيجابي، هو عملية الصراع نفسها بالنسبة إلى المثقف الجدي أو العضوي أو التنويري، وفي النهاية يقول المثل الفنلندي الحكيم: الأزمات زائلة والتغيير سُنّة التاريخ.
بؤس الوضع العربي
ونستدرك فنقول إنه على الرغم من أن العالم كله اليوم، وفي طليعته الغرب بالطبع، يشهد تحولات كبرى، ومنعطفات حادة، تشمل ميادين الثقافة والسياسة والاجتماع والاقتصاد والعلاقات الدولية، فإن الأمور تظل بالنسبة إلى الغرب قابلة للإصلاح والتجسير فالتغيير والإقلاع، استطراداً، نحو الآفاق النهضوية المطلوبة، عكس وضعنا كعرب، حيث يظهر أغلبنا، مع الأسف، وكأنه مكبّل بسلاسل العصور الوسطى، ولا يستطيع معها حراكاً، ولو بمقدار بوصة واحدة، نحو الأفضل، على رغم كل مظاهر العصرنة التي نُطلّ بها.
ولا غرو، فقد دخلنا عرباً، ومنذ عقود طويلة، مرحلة فقدان المشروعات الفكرية الإنقاذية ذات الروافع النهضوية الكبرى، وخصوصاً كنتيجة لحال عدم الاستقرار السائدة في معظم دولنا، الأمر الذي سيؤدي بعد وبعد، إلى مزيد من استنزاف مقدرات شعوبنا العربية، وشلّ إراداتها، وإرادات النخب الثقافية والمعرفيّة فيها.
تحدث تقرير صادر عن «مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة» عام 2014 عن واقع المعرفة في الوطن العربي، وجاء فيه أن اتساع الفجوة في أكثر من اتجاه، وتزايد المتطلبات التنموية، وارتفاع وتيرة السلوك الاستهلاكي، ستعمّق حال التباين السلبي بين أبناء المجتمع الواحد؛ وقد تقود إلى الشعور بعدم توافر آليات الاستقرار، الأمر الذي يستدعي بذل كل الجهود لتوطين حسّ الانتماء بمفهومه الشامل، تجنباً لاستدراج أصحاب الكفاءات الذين يشعرون بالتهميش، أو يتعرضون للإقصاء، من طرف المنظمات التي تتوسع باختراق خصوصيات الشعوب والعبث بأمنها، تمهيداً لضرب مقومات نهوضها وعناصر تحدياتها المستقبلية.
وحسناً فعلت وتفعل مؤسسة عربية رائدة مثل «مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة»، حين تتنبّه إلى مثل هذا الأمر الخطير على صعيد العديد من مجتمعاتنا العربية المهددة بالانهيار الفعلي، وتركّز بالتالي على نشر الوعي الثقافي المسؤول، للحؤول دون المزيد من انتشار الفوضى المدمرة، والتدهور المجتمعي، وتعمل بالتالي على نقل المعرفة، وتكريس السلوك العملي والمنهجي لأنساق التنمية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية المستدامة، والتي هي وحدها، بحسب علماء الاجتماع الكبار والثقات، تعصمنا من السقوط الكبير، وتؤسس لمجتمعات عربية مستقبلية قائمة على المعرفة وتعزيز أسس البحث العلمي وتطويره.
نعم، إن ما يجري اليوم في بقاع لا يستهان بها في وطننا العربي، هو على ما يبدو نتيجة مباشرة لانقطاع مسار التحديث، والإخفاق في إنتاج خطاب عقلاني معاصر.
لكن انقطاع التحديث العربي استمر، حتى في عزّ تصور كثرة كاثرة من المثقفين العرب أنهم يقودون مسيرة الحداثة بصورة متواصلة وغير منقطعة، منذ منتصف القرن العشرين إلى اليوم. وهي حداثة، على ما يبدو، هجينة قادها حداثويون هجينون برأي د. هشام شرابي، كبير منظرّي العرب في ما يخص علاقة مثقفينا بالغرب، فهو يرى أن أهم خاصيّة تميّز المثقف العربي في منتصف القرن العشرين، هي أنه تشكُلٌ ثقافي هجين. وهو لا يعني بذلك فقط النواحي المختلفة التي أورثها التشظي الثقافي لجيله في صياغة موقعه الاجتماعي وموقفه الفكري، ولكن أيضاً، وفي المقام الأول، الشرخ الداخلي الناتج عن انفتاحه على الغرب، على قدر لم يختبره من قبل. فمن المستحيل أن يتقن المرء لغتين، وأن يحيا في ثقافتين، ويبقى محتفظاً بشخصيته، ولاسيما متى لم يكن إتقان اللغتين ومعرفة الثقافتين عميقاً أو آمناً بما فيه الكفاية ليوفر الأسس اللازمة لصوغ وجهة نظر مستقلة. ولهذا السبب، فإن من الحتمي أن تتميز الخصائص الأساسية للمثقف برؤية مزدوجة غير منسجمة، وبتعددية أخلاقية غير متسقة، وبنسبية ثقافية مربكة.
هكذا، ومن وجهة نظر هشام شرابي، لا يزال المثقف العربي على الصعيد النفساني والحضاري تحت سيطرة الغرب. يقول: إنه ومنذ بدء علاقتنا بالغرب، ونحن نعاني شعوراً بالنقص تجاه كل ما هو غربي. ولا نزال حتى اليوم نتخذ من حياتنا اليومية أنماطاً ونماذج في الفكر والسلوك نستمدها من الغرب لمجرد أنها أوروبية أو أميركية المصدر؛ فالغرب بالنسبة إلينا تلقائياً مصدر كل شيء قيّم ومتفوق ورفيع. ننظر إلى الغربي على أنه جبلة أخرى غير تلك التي جُبلنا منها نحن، أو جُبل منها سائر البشر، وأصبحنا ننظر إلى أنفسنا وإلى مجتمعنا وإلى تاريخنا من خلال نظرة الغربي إلينا، فكأن همنا الأول (عن وعي أو عن غير وعي) أن نحظى برضى هذا الغربي وبإعجابه.
لكن وفيما يشبه إنصاف المثقفين العرب بعض الشيء، ينبّه شرابي إلى أنه علينا أن نأخذ بالحسبان أن هؤلاء المثقفين كانوا (ولا يزالون) محرومين من المؤسسات والتقاليد التي ارتضى بها أقرانهم الغربيون أو ثاروا عليها، لكن من دون أن يغيّبوها برمتها. نضيف إلى ذلك أن المثقفين العرب كانوا (ولا يزالون) لوحدهم في ساحة الصراع، منفيين عن معتقدات آبائهم وتقاليدهم، ومعرضين للتعاطي مع نظام اجتماعي فاشل، عاجز عن توفير ضمانات ثابتة ومرشدة لهم. ومن هنا برز على ما يبدو موقف الانزواء والتنصل وهجر الالتزام لهذا المثقف.
وبما أن الثقافة العربية هي المثقف العربي.. والعكس صحيح، يدعو هشام شرابي المثقف العربي إلى التخلص من عقدة الغرب، لا لشيء إلا لأنه لم يعد هناك اليوم، على المستوى المعنوي، ما يمكن تسميته الغرب. لم يعد هناك «غرب»، بمعنى الكيان الذي كان الجيل السابق يواجهه. ما نواجهه الآن، في عالم العولمة، شيء آخر. شيء يضرب حرية الثقافات كلها (ومن ضمنها الثقافة الغربية نفسها) باسم «التداخل الثري» فيها. ومن هنا، فإن التطلع إلى صوغ ثقافة إنسانية جديدة ومفارقة، عندنا كما عند غيرنا، يحتاج إلى عقود من الزمن. بالتالي، ليس عام 2020 أو ما سيليه من أعوام قليلة، سوى تمرين على درب الوصول إليها.
الإمارات والتقدم العلمي والثقافي
وما دمنا قد تحدثنا قبل قليل عن ريادة «مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة» وإسهامها العملي والمباشر في نشر الوعي العلمي والثقافي، فإنّ الأمانة العلمية تقتضينا التطرق ههنا إلى ما قاله صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، قبل شهور في ما خص الوجه الثقافي لدبي من أن «مكانة أي عاصمة اقتصادية عالمية لا تكتمل دون وجه ثقافي حضاري يعكس رقيّها. ودبي تمتلك أصولاً ثقافية وفنية تؤهلها لتكون وجهة ثقافية عربية وعالمية وحاضنة رئيسة للمواهب والمبدعين». واستطرد سموه يقول: «إن ما تتمتع به دولة الإمارات من ثراء ثقافي يؤهلها للقيام بدور مهم وفاعل على خريطة العالم الثقافية، أسوة بدورها الاقتصادي المحوري عالمياً.. نعم يمكن، وبوضوح، رؤية دولة الإمارات خلال سنوات قليلة كأكبر محطة ثقافية إقليمية وإحدى الوِجهات الثقافية العالمية، وذلك بفضل المشروعات الثقافية الاستثنائية التي تضطلع بها في مختلف إمارات الدولة».
نعم، يَشخصُ سموه إلى رؤية استراتيجية ثقافية واحدة لدولة الإمارات تنهض خلالها هذه الدولة العربية الفتية لتدهش العالم بكل ما ترسمه وتنفذه على الأرض من بنى ومؤسسات ثقافية ناجحة، تؤكدها، وتعمل على ترسيخها، طاقاتها البشرية الإبداعية في مختلف المجالات.
ومن هنا تتكامل لوحة العمل الثقافي الإماراتي، مؤكدة أن الثقافة في النتيجة، هي الدافع الجوهري للتنمية الاجتماعية والاقتصادية المستدامة. ومن هنا كذلك، رأينا أبوظبي عاصمة دولة الإمارات، تتألق بكل مشروعاتها الفنية والثقافية العملاقة، بدءاً من متحف اللوفر، الذي افتتح أبوابه لعشاق الفن على أرض الدولة في الحادي عشر من نوفمبر 2017 بموجب الاتفاقية الرسمية الإماراتية المبرمة مع الحكومة الفرنسية، ولمدة 30 عاماً، متوجةً بذلك الوصل العريق بين الفن الشرقي والفن الغربي، ومروراً ببناء سلسلة من المتاحف تتزين بها جزيرة السعديات الظبيانية الساحرة: «متحف زايد الوطني»، ومتحف «جوجنهايم أبوظبي» كأكبر متحف في العالم، ووصولاً إلى «مركز أبوظبي للفنون الاستعراضية»، الذي صمّمت تحفته المعمارية العراقية الراحلة زها حديد، فضلاً عن «المتحف البحري» الذي تقوم فكرته على قصة كفاح أهل الإمارات وتاريخهم المشدود إلى الحياة البحرية القديمة بتفاصيل أدواتها لصيد اللؤلؤ والسمك، من نماذج المراكب الشراعية الأولى (البوم) إلى مفردات الغوص والقماش والحبال المصنوعة من الليف والشباك والسنانير والخطّافات القديمة… إلخ.
ثم إننا لن ننسى الشارقة كأول عاصمة ثقافية عربية (1998) بمؤسساتها الثقافية، ومسارحها العريقة، وحيّها التراثي الذي يتضمن 17 متحفاً متنوعاً، بينها متحفها الكبير الخاص بالفنون التشكيلية على مختلف اتجاهاتها، الكلاسيكية منها والحديثة، فضلاً عن ورشها الفنية التجريبية.
ولا يغربنّ عن البال أبداً وجود ظاهرة بينالي الشارقة كأكبر تظاهرة فنية تشكيلية دورية في الوطن العربي، حافظت على تقاليدها العروضية البانورامية، منذ انطلاقة بينالي الشارقة الأول في العام 1993. ولقد عمدت الشيخة حور بنت سلطان القاسمي، المختصّة بالفنون الطليعية والحديثة، والتي أشرفت على البينالي منذ العام 2003 إلى إحداث تطور نوعي فاصل في بنية هذا البينالي وعروضه، بما لديها من رؤية إبداعية حديثة وثقافة واسعة وخبيرة بعالم الخط واللون والفنون التركيبية على مستوى عالمي. ولا غرو، فهي عضو إدارة متحف الفن الحديث في نيويورك منذ سنوات طويلة، ومحاضرة وناشطة في بيناليات دولية عدة، في الهند والبرازيل ودول أخرى. والكل يشيد برؤيتها الإبداعية المعمقة والمتجاوزة.
بلد الإقامة في المستقبل
لا نبالغ البتة إذا ما اعتبرنا دولة الإمارات العربية المتحدة، هي بلد المستقبل والإقامة الفاعلة والمتفاعلة فيه. وهي بذلك سبّاقة على غيرها من سائر الدول العربية، وكثرة كاثرة من الدول الأجنبية. يؤكد ذلك بالطبع، ليس فقط المشاريع الثقافية الجديدة والمبتكرة التي يبرز فيها وجه الدولة الداعم بقوة لها على غير ما صعيد، وإنما أيضاً المؤتمرات العلمية والثقافية الجدية والمتلاحقة التي تزخر فيها، ومنها، مثالاً لا حصراً، مؤتمر «العالم والمستقبل.. 30 عاماً من الآن» – 2019، والذي نظمته وزارة المالية الإماراتية في مركز دبي التجاري العالمي، والذي تحدث فيه البروفسور ميتشيو كاكو (سبق أن أشرنا إلى اسمه أعلاه) عن المتغيرات التي «ستحدثها الثورة الصناعية الرابعة والتطور الهائل في تقنية المعلومات على مستقبل البشر الذي سيصبح رقميّاً روبوتياً يرتقي بالصناعات وخالياً من الأمراض. كما ستختفي في هذا المستقبل العديد من التسميات أو المصطلحات من مثل «كومبيوتر» و«كهرباء» وتحل محلها الروبوتات الناظمة لآلياتها الجديدة».
وفي إطار آخر، كان تحدث البروفسور كاكو عن أن دولة الإمارات درست بأهمية بالغة، مخاطر الذكاء الاصطناعي في المستقبل، «قاطعة بالفعل أشواطاً في تطبيقها ودمجها في قطاعات العمل المختلفة، وبالتحديد في المحور الذي ينصّ على تعيين المجلس الاستشاري للذكاء الاصطناعي، وإصدار قانون حكومي بشأن الاستخدام الآمن للذكاء الاصطناعي، وتطوير أول وثيقة عالمية لتحديد الضوابط الضامنة للاستخدام الآمن والسليم للذكاء الاصطناعي».
ومن جهة أخرى، تشكل دولة الإمارات العربية المتحدة نموذجاً متقدماً لبلدان ثقافة التسامح الديني والعرقي في العالم؛ فهي الدولة ذات الأغلبية المسلمة في المنطقة، التي نرى فيها المساجد إلى جانب الكنائس والمعابد الهندوسية والسيخ جوردارا، هكذا بتناغم سلمي واعتدالي وإنساني عالي القيمة والرسالة. يتعزز ذلك بالطبع في إطلاق الدولة برنامجها الوطني للتسامح، ومكافحة التمييز العنصري، وتشريع قوانين محاكمة خاصة بالتمييز والكراهية والتحريض على الآخر.
وإذا ما عرفنا أن دولة الإمارات العربية المتحدة يعيش على أرضها أكثر من 200 جنسية من هذا العالم، الذي يضجّ أغلبه بالمشكلات الاقتصادية والأمنية والاجتماعية والسياسية المزمنة، يتبين لنا ما لهذه الدولة من أهمية واقعية ورمزية مضاعفة، ليس لأهلها الآمنين فقط، وإنما أيضاً لسائر العرب والعالم جميعاً. وتلك، لعمري، ثقافة سياسية يحرص عليها حكام الإمارات بمسؤولية عالية وعميقة قلّ نظيرها بين سياسات دول هذا العالم، بمن فيها تلك التي تتحدث بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان.
كما أن حكام الإمارات يبحثون وبرؤية اقتصادية تنموية عَمَليّة في مستقبل إنسانهم لعقود طويلة ومفتوحة مقبلة، وهذا الشأن في رأيي هو قمة المستقبل الوطني والإنساني الكبير.
التداخل الضارب للثقافات
يدعو هشام شرابي المثقف العربي إلى التخلص من عقدة الغرب، لا لشيء إلا لأنه لم يعد هناك اليوم، على المستوى المعنوي، ما يمكن تسميته الغرب. لم يعد هناك «غرب»، بمعنى الكيان الذي كان الجيل السابق يواجهه. ما نواجهه الآن، في عالم العولمة، شيء آخر. شيء يضرب حرية الثقافات كلها (ومن ضمنها الثقافة الغربية نفسها) باسم «التداخل الثري» فيها.
بشريّتنا مهددة
مع نهاية القرن الحادي والعشرين، بحسب خبراء التقنية الكبار، ومنهم الأميركي من أصل ياباني ميتشيو كاكو، ستكون الآلة الذكية، بل الأشد ذكاء، أي الروبوت، قد أطبقت بشكل كامل على حياتنا كبشر، وهو إطباق نتمناه ألا يخرج عن السيطرة والتحكّم، لأنه إذ ذاك سيدمر فينا، وبأيدينا، خصيصة الجينوم البشري الذي يحتوينا ونحتويه.
ثقافة منزوعة الجدية
الأدب بدأ يتراجع أمام هجمة صناعة الترفيه السطحي التي يتولاها كبار تجار أوروبا والعالم، بدعم من سياسيين غربيين بات أغلبهم أقرب إلى المهرجين منهم إلى رجال السياسة المثقفين والمسؤولين عن غنى صورة حضارة الغرب وتراثه الإنساني والرمزي العريق. إنهم يقدمون أنفسهم بلا مرجعيات أخلاقية تذكر، ما يجعل الثقافة الغربية الراقية تتراجع أمام سيطرة الثقافة الشعبوية السطحية التي توائم صناعة الترفيه التي تغطيها دول غربية كبرى، وتسم بميسمها الثقافة الأوروبية وتنزع عنها أي جدية إبداعية تذكر.
الاتحاد