منذ انطلاق شرارتها في 17 أكتوبر من العام الفائت، لا شيء استفزّ الطبقة السياسيّة الحاكمة في لبنان أكثر من شعار “كلّن يعني كلّن”، الذي بات أيقونة هتافات الانتفاضة بامتياز، منذ أوّل أحد تلا انطلاقتها. والشعار صدر من معاناة شعب أتعبه فساد الأحزاب والتيارات السياسيّة التي استرسلت في المحاصصة وتقاسم “قالب الجبنة”.. يومها، ومن وحي “انتفاضة الضرائب”، التي شكّلت الشرارة الأولى لاندلاع “ثورة 17 تشرين”، لم يميّز المتظاهرون بين سياسيّ وآخر، فصرخوا، ولا يزالون، بأعلى أصواتهم “كلّن يعني كلّن”، ولم يستطع أحد النجاة من هذا الشعار برمزيّة مضمونه. أنهى المنتفضون اللبنانيون العام 2019 بـ«أحد المحاسبة»، واستقبلوا العام الجديد بـ«أحد المبادئ»، والذي لا يزال أفقه مفتوحاً على شتى الاحتمالات والتسميات، وابتداع أساليب صوغ مبتكرة للشعارات وللهتافات المعبرة عن الحق.
أما لسان حالهم، فما زال يؤكد المطالب التي صدحت بها الساحات، منذ الأيام الأولى للثورة، والمتمثلة بتشكيل حكومة اختصاصيين ومستقلة ومصغرة ومن خارج المنظومة الحاكمة، بجدول أعمال واضح لإدارة الأزمة الاقتصادية بأقل الخسائر الممكنة، إلى جانب إطلاق يد القضاء وتحريره من التبعية للسلطة السياسية، من أجل محاسبة جميع المتورطين بنهب المال العام، والدعوة إلى انتخابات مبكرة وفق نظام انتخابي جديد يضمن عدالة التمثيل. وما بين الأمس واليوم، خفتت الثورة في الشارع، لكنها مستمرة بمطالبها ورفضها للطبقة الحاكمة، وسط توقعات تشير إلى أنها ستتحول إلى «ثورة جياع».
بدأت معالمها ترتسم من داخل المصارف، التي تشهد يومياً أكثر من عملية اقتحام واستهداف، لا بد أن تتمدد بدافع العوز والجوع الذي بدأ يدق أبواب غالبية اللبنانيين الذين باتوا عاطلين عن العمل. وبسقف خطاب مرتفع، سجل الكثيرون من المنتفضين، على اختلاف توجهاتهم السياسية، مطالباتهم بإضراب عام يشمل كل عمال لبنان، ويطالب بخفض أسعار المحروقات ومراقبة أسعار السلع الغذائية وغير الغذائية، تلك التي تخضع للمنافسة، وتلك التي يحكمها الاحتكار.
«لا ضرورة لتشكيل حكومة!» عبارة قد تترجم حالة فادي الموظف العام، وربيع المدير في إحدى الشركات الخاصة، اللذين أبديا رد الفعل نفسه، حين سُئلا عن أهمية تشكيل الحكومة الجديدة: «غير مهمة، ما دام الزعماء السياسيون هم أنفسهم، وما دامت التشكيلة الوزارية ستخضع لمحاصصتهم»، تماماً كما توحدت إجابتاهما حين سئلا عن راتبيهما، إذ ضحك الاثنان باستهزاء، وعلق فادي: «لا أدري إن كان ما نتقاضاه، بالمقارنة مع غلاء المعيشة في لبنان، يمكن أن يُطلق عليه اسم راتب».
وهكذا، تفتحت عيون الناس في لحظة انتفاضة، بعدما فقدوا الثقة بكل المسؤولين، يقول ربيع، وهو من الطامحين إلى وجوه أخرى «تكنوقراط» تتمتع بكل مواصفات النزاهة والشفافية، ولا تنتمي إلى تلك الطبقة التي أهدرت الأموال العامة دون حسيب أو رقيب.
وفي المحصلة، لم يفقد الثوار البوصلة، ولم يتعبوا، حسب تأكيد الناشطة مهى، وإن كانت «السلطة ما زالت تتلاعب بمصيرنا، لإنتاج التسويات الخاصة بها عبر التفاوض على الحصص في الحكومة الجديدة». ومهى هي واحدة ممن ابتكروا هتافات جديدة بعد تسريب أسماء الوزراء المحتملين في الحكومة المرتقبة، بدءاً من «يا حسان قول الحق عونك جابك والله لأ، باسيل جابك والله لأ»، مروراً بـ«كلن يعني كلن و(حسان) دياب واحد منن»، ووصولاً إلى هتاف «يا حسان باي باي ما رح توصل ع السراي».
البيان