يجمع عدد كبير من الدارسين والمشتغلين في علم الاجتماع الثقافي على أن الخصوصيات الثقافية للشعوب مهددة من قبل العولمة، بل يذهب بعضهم إلى القول إن ثورة الاتصال المعلوماتية وأدواتها الاتصالية لم تترك مجتمعاً على حاله، وهي بالتالي تقوم بتغيير متسارع في عادات الشعوب وتقاليدها وتراثها، يؤدي إلى تبدّلات في الهوية الوطنية لمصلحة نوع من التنميط أو الهوية المعولمة.. ما يجعل السؤال عن مصير التراث مشروعاً، لا سيما وأن دولاً كثيرة لم تعد تستخدم تراثها إلا في المناسبات والعروض الفولكلورية والمتاحف.. وغني عن القول أن سؤال: هل يكفي عرض التراث في المتاحف أو في المعارض للمحافظة عليه بات سؤالاً ملحاً.. لكن ماذا عن الإمارات التي تبذل جهوداً يلمسها القاصي والداني للمحافظة على التراث؟ هل يمكن لنا في الإمارات أن نخالف القول السائد بأنّ ثمّة قطيعة ما بين التكنولوجيا والتراث المادي ممثلاً في الحرف التقليدية والفنون الشعبيّة؟ وأن نعمل على خلق تصالح ما بين الطرفين، باستثمار كلٍّ منهما لخدمة الآخر، وتحديداً حين تتضمن وسائل التقنية الحديثة البعد التراثي؟
في الواقع يمكن ذلك، من وجهة نظر خبراء ومعنيين بالتراث، يتفقون على أهمية العمل المتحفي في تقديم تراثنا، لكنّهم في الوقت ذاته ينصحون بأن نفكّر في مرحلة ما بعد المتحف.

في قلوب الناس
يؤكّد الدكتور عبدالعزيز المسلم، رئيس معهد الشارقة للتراث، قيمة الحِرف التقليدية في إظهار الماضي العريق، مهتماً بمرحلة ما بعد العمل المتحفي أو عروض الحرف والفنون الشعبيّة، وذلك لكي تكون هذه المعروضات ذات مكان في قلوب الناس، خصوصاً فئة الشباب، لكي يظلوا على ارتباط وثيق بتراثهم، فتتكوّن لديهم ثقافة تراثيّة، ولكي يظلّ المكتسب التراثي حاضراً لدينا ولدى شبابنا، باعتباره هويّة وطنية، يجب أن يتم السير فيها لإبرازها لكلّ شرائح المجتمع وفئاته، لنحفظها أو نودعها في أمكنة آمنة، ألا وهي قلوب الأبناء.
ويتحدث المسلم عن أنّ الحرف والفنون التقليدية لم تكن في يوم من الأيام على نقيض أو عدم تصالح مع الحداثة أو المعطيات الثقافية الحديثة، ومن الممكن أن نجعل حداثتنا في الملبس والمأكل والمشرب تتضمنها أو تكون جزءاً منها، أولاً، كعنصر أصيل نراه ونسأل عنه كلما شاهدناه في مقتنيات حديثة، ليس شرطاً أن تكون كمعروضات فقط، بل يمكن أن تكون ذات وظيفة، إضافةً إلى جانبها الجمالي، والدليل على ذلك أنّ مفردات منها لا تزال مستخدمة وتؤدي الغرضين الجمالي والوظيفي في الوقت ذاته.

ويقول المسلم إنّ معهد الشارقة للتراث مهتم جداً بأن يصل تراثنا إلى منظمة اليونيسكو وتصنيفاتها، كمنظمة عالمية لها سمعة وثقل في هذا المجال، ولذلك فإنّ العمل جارٍ على الترويج لهذا التراث في كلّ أشكاله على المستويات المحليّة والمستوى العربي والعالمي.

دور وظيفي
بدورها، تؤكّد فاطمة المغني، الخبيرة والباحثة في التراث، الارتباط الوثيق للحرف الشعبية الإماراتيّة بالأصالة والهوية، داعيةً إلى تعريف الأجيال الجديدة وتمكينها من فهم تراثها ومدلولاته، وهو ما يتطلب أن نتحدث أيضاً عن الدخل الذي يمكن أن تدرّه الثقافة، إذا تم التعامل مع الحرفة اليدوية أو الصناعات التقليدية باستثمار مدروس في الجانبين: المعنوي والمادي أيضاً، لأنّ ذلك يدفع إلى المزيد من الاستمرار في المحافظة على هذه الحرف وصونها وتقديمها للمتاحف بثقة عالية، ولذلك فإنّ ثقافة المتحف هي ثقافة مطلوبة، لكن التراث عنصر مهم لا تقتصر أهميته على العرض الجمالي وحده، بل فيه إفادة للقائمين على صنعه ويعتاشون منه.

وتضيف المغني أنّه، وعلى الرغم من بساطة الحياة في ما مضى، إلا أنّ الإنسان الإماراتي كان ينفّذ هذه الحرف بجمالية عالية وبدقة متناهية، مراعياً توافر عنصري الجمال والاستخدام، أي الوظيفة والإبهاج البصري. ومن ناحية تاريخية، تقول المغني، إن المكتشفات الأثرية والحرف اليدوية القديمة تكشف عمق الإمارات التاريخي، وتدلنا على أصالة ضاربة في التاريخ. فمن ضمن المكتشفات وجود حِرف الزراعة والرعي والعقود وأدوات ثقب اللؤلؤ في مختلف مناطق الدولة، داعيةً إلى أن يتمّ تعريف الجيل الشاب بما صنعه الرواد من الآباء والأجداد.
من جهة أخرى، لا ترى الخبيرة المغني أيّ تعارض يمكن أن ينشأ بين التراث والتكنولوجيا، أولاً لأنّ لكل منطقة تراثها وهويتها وخصوصيتها التي لن تندثر، وثانياً لأنّ التكنولوجيا هي مكسب مهم لا يمكن أن يضيع بسببه المكتسب التراثي الذي تكوّن عبر كل تلك السنين، بل إنّنا نستطيع وفق رؤيتنا أن نطوّع التكنولوجيا لخدمة تراثنا، وهو أمر قامت به دول كثيرة كانت تصدر عن رؤية في خدمة التكنولوجيا للتراث وترويجه عن طريقها، والأمثلة كثيرة.

الصراع موجود
لكنّ الفنان التشكيلي والمسرحي الدكتور محمد يوسف يرى رأياً مغايراً، وهو أنّ ثمّة صراعاً بين الهوية كتراث وما يحيط بنا من مؤثرات تقنية وتكنولوجيّة، لأنّ كلا العنصرين من حيث رؤيته يتجه باتجاه مخالف للآخر. ومع ذلك يجد يوسف حلاً لهذه المسألة، وهي أن نقوم بتنفيذ عدد من الورش والندوات والمحاضرات لمواجهة هذا الصراع خارج القاعات المغلقة، لكي يصل إلى الجمهور.
ويرى أنّ ميزة الحرف والفنون الشعبية أنّها تتكامل، ولذلك فعلينا الاستفادة من هذا التكامل في ترويج كلٍّ منهما للآخر، فمن المهم أن يتعرّف الأطفال على كلّ ما يخصّ البيئات الجغرافية المتنوعة، ناصحاً بأن يعتاد الطلاب والناس المتاحف وتدبّر التراث الإماراتي الغني، وألا نقف فقط عند تقديم أعمال متحفيّة، بل علينا أن نذهب ما وراء العرض لربط محكم وذكي بين الحاضر والمستقبل.

كما يدعو يوسف إلى ترويج التراث والحرف اليدوية عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، لتقديم صورة صحيحة عن التراث والحرف والصناعات اليدوية، وتعريف الجمهور بالبساطة والابتعاد عن التصنّع، فنحن واثقون من أن تراثنا يمكنه بسهولة الوصول إلى العالمية.

تكريم
من جهتها، تؤكّد خلود الهاجري، مدير مركز الحرف التراثية بمعهد الشارقة للتراث، أنّ المركز يحاول استثمار الحِرف لحفظها من الاندثار. وترى أنّ تكريم المشتغلين بالتراث أمر حيوي وفي غاية الأهميّة، لأنّ من شأن ذلك أن يبرز هذه الحِرف في ظلّ تحدي التكنولوجيا والتطور الحاصل، مشيرةً إلى أنّ معهد الشارقة للتراث يستثمر هذه التكنولوجيا لغرض ربط الحاضر بالماضي في مجال الفنون، ومن ذلك استخدام جهاز الهولوجرام، وكذلك وسائل الواقع الافتراضي نحو أرضية مشتركة بين أصالة الأمس وتقدّم اليوم.

 

 

الاتحاد