لا شيء يثير الأسئلة الوجودية، وأسئلة الحياة والموت، وغاية الكائن على الأرض، مثل الأوبئة أو الأزمات الكبرى التي تعصف بالبشرية بين حين وآخر، وهذه بالذات هي انشغالات الفلسفة والآداب والفنون، والتاريخ يخبرنا أن عدداً غير قليل من الأعمال الإبداعية، التي سُطرت في تاريخ الأدب، جاءت من ظروف صعبة مرت بها البشرية، وأزمات أثرت على حياة الإنسان، فاستفزت لديه حس الإبداع، وجعلته يستلهم من الواقع المؤلم أعمالاً سردية خالدة في وجدان التاريخ، وفي ذاكرة الإنسانية.
هذا الصراع الوجودي، الذي خاضته البشرية مراراً على امتداد تاريخها، مع تحديات كبرى كالأوبئة، أسامت، رغم بشاعتها، في تطوير الإبداعية لدى الإنسان على كل المستويات، واستخلاص الأفكار الناضجة التي تصب في خدمة البشرية، ورغم خسائره، خرج الإنسان منها منتصراً.
من هنا، واستناداً إلى خبرة التاريخ، والسعي إلى استشراف المستقبل، تنبت مشروعية سؤال «الاتحاد»، عن الكيفية التي ينظر بها الكُتّاب والمبدعون لأزمة وجودية جديدة تعصف بالإنسانية، ماذا سيكتب الكتاب وأي نوع من الأدب سوف يلهمنا كورونا؟ هل يمكن الحديث عن إبداعات كبيرة يمكن أن تولدها هذه الأزمة؟
يقول الشاعر الإماراتي أحمد العسم:
بِلا شك، ستولد هذه الأزمة إبداعات ملهمة، لأن الإنسان خلق عادة وهو يبحث عن الأسئلة التي تأتي من وراء التحديات ليجد كينونته وصيرورته، ففي الأزمات تخلق الأفكار، وفي المحن تولد الإنسانية من جديد، ويشعر المبدع بعمق أفكاره، ليلتمس من خلالها ضوء الأمل والفرج مع التمسك بقيمة الحياة وجماليّتها.
كل حالات الكون والظروف التي تمر على المبدع قد تؤثر عليه وعلى إنتاجيته، فالمبدع دائماً يقتنص من الظروف حصيلة إلهامه الكامن في النفس، ليخرجه إلى النور، وذلك لا يأتي إلا بحافز، يكون كونياً أحياناً، كما نشاهد اليوم مع فيروس كورونا المستجد الخطير، وحين يأتي إحساس الموت يكون النقيض حاضراً في الوقت نفسه، وهو الإحساس المرهف بالحياة، المبدع دائماً يكون حاضراً في الوجود، بما يملك من فكر يجعله يستكشف جمالية الحياة رغم الألم والأسى، ولذلك تكون أعماله صادقة من القلب إلى القلب، يخلدها التاريخ لأنها مليئة بالعمق الإنساني.
وتشير الباحثة والكاتبة عائشة سلطان إلى أن هناك علاقة وثيقة تربط الإبداع بكل ما يحصل للإنسان، وتحديداً في الأحداث الجسيمة التي تؤثر على حياته، مثل المعارك والأوبئة والانتصارات والفتوحات، وكل ما يرتبط بمصير الإنسان ووجوده، فدائماً الإبداع يخلد مسيرة الإنسان في أفراحه وأتراحه، وتبقى تلك اللحظة دليلاً على ما أنجزه، ويبقى إنجازه سطراً واضحاً في دفاتر التاريخ، إن دور الإبداع وخاصة في مجال الأدب دور محوري في رسم خريطة الذاكرة، ومنح المعنى الحقيقي لكل ما يهدد وجود الإنسان.
وهناك العديد من الأحداث التي تأثر معها أفرادها وتفردوا بإبداعاتهم، ناهلين من الحدث نفسه إبداعاً ملهماً رغم الخسائر الكبيرة، من ذلك أحداث كارثة تشيرنوبل في عام 1986، حيث فازت الكاتبة البيلاروسية سفيتلانا ألكسيفيتش بجائزة نوبل لما قدمته من إنتاج، قامت بعمل 4 روايات مهمة، تعد من أهم روايات التوثيق، التي استخلصت من خلالها الكارثة الكبرى، وهناك العديد من الأعمال التي خلدت الأحداث، لما تحمل من عمق في المعنى والمضمون الإنساني النبيل. إذن الأعمال الخالدة هي التي تبحث ما وراء المعنى، ودائماً في وجود الأزمات والظروف الصعبة التي تمر بالإنسان، هناك خيط رفيع يوصل إلى المعنى الذي يكمن وراء الكارثة والحدث نفسه، وهذا ما يجعل العمل ذا قيمة إبداعية رفيعة يخلدها التاريخ.
ويلفت الكاتب والمخرج المسرحي الإماراتي، صالح كرامة العامري إلى أن الإبداع الأدبي، وخاصة في مجال الكتابة، هو في الأصل الشعور في اللحظات المؤلمة التي يستطيع الكاتب التعبير من خلالها، ما يجعل كتاباته تمثل الواقع المستلهم من الحياة والظرف الذي مر به، واللحظات المؤثرة التي تصيب البشرية، يستطيع المبدع الحقيقي من خلالها الوصول إلى عدة رسائل محملة بمعانٍ، تنهل منها الإنسانية عذوبة الحياة، وشفافية الكون بألوانه الجميلة.
وترى الكاتبة شيخة الجابري أن مثل هذه الأحداث تسهم في صياغة وجدان الإنسانية، والكثير من الأعمال عبر التاريخ جسدت معاناة البشرية من الكوارث والأزمات التي مرت بها، ووباء «كورونا» اليوم الذي تعاني منه الإنسانية، جعلها في صدمة، لما له من تأثير كبير وخسائر دامية، ولكن بِلا شك ستكون بعد مرحلة الصدمة، عودة إبداعية حميدة، وسيشهد التاريخ أعمالاً أدبية تضفي إلى رصيده السابق.
وتشير الجابري إلى أن الأعمال الخالدة هي التي جاءت من الواقع مجسدة الحقيقة بتفاصيلها، لتحاكي الناس وتلامس شغاف قلوبهم، وعلى المبدعين دراسة الوضع الراهن، واستغلال الفرصة بنظرة ثاقبة، وعينٍ تمحص اللحظات برؤية استشرافية مشرقة، وإعادة صياغة المشهد من باب الوجود الإنساني، لإيجاد سبل تستنير من خلالها البشرية.
ويشدد الشاعر والناقد سامح كعوش، على أن الأدب يستمد حياته من نبض الحياة نفسها، ويحاكي تفاصيلها اليومية بمفردته النثرية أو الشعرية، ويتناولها بكثير من العمق الشعوري الإبداعي، مازجاً بين المتخيّل والحقيقي، فكيف إذا كان مصدر هذا الحقيقي المتخيل وباءً خطيراً قاتلاً، يُدخل البشرية جمعاء في غياهب المجهول. لا شك أن الوباء يتداخل مع الأدب تداخلاً وثيقاً لا يقبل التأويل، فالأديب معني جداً بما يؤلم الإنسان ويهدد الإنسانية، بل هو منشغل أصلاً بجماليات الحياة، فكيف به لا ينشغل بأول مهدد لهذه الجماليات، وهو هذا الفيروس الوبائي الشنيع البشع شكلاً ومضموناً؟
ربما يتحاشى الأدباء والمبدعون الإشارة إلى هذا الوباء كعنصر جمالي في قصيدة، ولكنني أجزم بأنه يصلح عنصراً تشويقياً في سياق سردي، لما رافقه من تداعيات مخيفة عاشتها الإنسانية جماعاتٍ وأفراداً، ومن مشاعر خوف وذعر حقيقي، اعتقد الإنسان المعاصر تخلص منها، كما يمكنني الجزم بأن هذا الوباء سيدخل عنصراً حقيقياً في صناعة السينما، بعدما كان لعقود عنصراً تخيّلياً علمياً فيها.
الاتحاد