لا تكمن المخاطر الناجمة عن الحروب الأهلية والنزاعات المحلية التي اتخذت أشكالاً طائفية ومذهبية وعرقية، عند حد زيادة مهددات أمن واستقرار المنطقة العربية، وإنما في خلق اقتصادات حرب أو اقتصادات الصراعات الداخلية وفق تعبير الباحثين السياسيين والتي تدفع جماعات المصالح على طرفي الصراع، في اتجاه تغذيته واستمراره لكونه يمثل مصدراً رئيسياً، للحفاظ على استمرارية مكاسبهم المالية الضخمة والتي سوف تتهدد بالضرورة، إذا ما توقفت هذه الحروب والنزاعات أو حتى تهدأ وتيرتها على أقل تقدير، بحيث برز خلال السنوات الأربع الماضية، منذ اندلاع ثورات الربيع العربي، ما يمكن تسميته بأنماط تجارة “بيزنس” تبدو من حيث كثافتها أمراً غير معتاد، تمثلت في العصابات المتخصصة في تجارة الأعضاء البشرية وتهريب الأسلحة وزراعة المخدرات وتهريب مصادر الطاقة من بترول وغاز، فضلاً عن الآثار والمواد والسلع والبضائع مع صعود ما يوصف باقتصاديات الجهاد .
ترتبط مظاهر تنامي اقتصادات الصراعات المسلحة في الإقليم حسبما يقول محمد عبد القادر خليل الباحث بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، بضعف الدولة المركزية وهشاشة الوضع الأمني الذي تعانيه أغلب دول المنطقة لاسيما في المناطق الحدودية، باعتبارها تشكل الخواصر الرخوة أو الأطراف الخارجة عن السيطرة مما جعل القدرة على التحكم في الحركة عبر هذه الحدود صعبة، وفي حالات أخرى مستحيلة، وذلك لتصاعد التجارة غير المشروعة وبروز حواضن اجتماعية للجماعات القائمة عليها سواء كانت جماعات إرهابية أو إجرامية أو جماعات سياسية داخل بعض الدول .

ويرجع المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية بالقاهرة في دراسة مهمة في هذا السياق أسباب ظهور تلك الجماعات، إلى حالة المد الثوري والتي كشفت بوضوح عن حالة من الترهل والضعف الأمني، مما انعكس على عدم قدرة الدولة المركزية على السيطرة على كامل إقليمها سواء بشكل كامل مثلما في حالات كل من ليبيا واليمن وسوريا والعراق والصومال، أو حتى جزئياً على بعض المناطق الحدودية مثل تونس واليمن وبعض المناطق الطرفية والهاشمية في الجزائر بحيث تنتعش اقتصادات الصراعات الداخلية في أغلبية دول الإقليم بدرجات متفاوتة وأشكال مختلفة وتصبح السوق المحلية في حالة فوضى إذا لم يعد هناك حد أدنى بأي لوائح أو أسعار أو قواعد للتعامل .
ووفقاً للدراسة ذاتها فإن أبرز سمات اقتصادات الصراعات الداخلية، تتمثل في الانتشار الواسع لعمليات السلب والنهب، والسيطرة على بعض أنواع من التجارة واحتكارها واستعمال القوى العاملة تحت تهديد السلاح، والسيطرة على الأرض إلى حد ترحيل السكان من مناطق واسعة، وإحلال جماعات جديدة محلها والاستيلاء على مواد الإغاثة القادمة من المنظمات الدولية غير الحكومية وتشير إلى أهمها على النحو التالي:
1- جماعات تهريب الأسلحة التي تمثل الوقود الذي يشعل الصراع وتمدد انتشاره في مناطق جغرافية أخرى، على نحو لا يسهم في شيوع الأمن والاستقرار ولكن الأهم من ذلك أنها تتيح للفصائل المتحاربة امتلاك القدرة على إفشال أي اتفاقات سياسية، لا تتوافق مع مصالحها وتنشط هذه الجماعات في المناطق الحدودية في العديد من دول المنطقة، حيث تتواجد في المناطق الحدودية لليبيا مع مصر ومع تونس ومع الجزائر، فقد تحولت ليبيا بعد سقوط القذافي إلى مصدر رئيسي لتزويد مختلف الجماعات بكل أنواع الأسلحة، كما تنتشر جماعات تهريب الأسلحة على الحدود المصرية السودانية والمغربية الجزائرية، فضلا عن تواجدها بشكل ملحوظ في المناطق الحدودية بين اليمن والسعودية .
2- شبكات تهريب المقاتلين التي انتشرت كأداة لمساعدة من يرغب في الانضمام للحركات المسلحة في دول المنطقة، في مقابل الحصول على مبالغ مالية، لاسيما مع وجود رغبة جامحة للعديد من الفئات لاسيما الشبابية للمشاركة في حروب المنطقة .
3- عصابات الاتجار بالبشر التي ساهمت فيها حالة عدم الاستقرار السياسي وغياب الأمن، سواء عبر تزايد عمليات الاختطاف وطلب الفدية من قبل الجماعات المسلحة، أو حتى من قبل التنظيمات الإرهابية، حيث ينتشر هذا النمط بشكل واسع في اليمن، ويضاف لذلك عصابات اختطاف النساء والأطفال المنتشرة في سوريا والعراق وبيعها عبر الحدود .
4- جماعات تجارة الجثث والأعضاء البشرية، التي تنشط بشكل ملحوظ في المناطق الحدودية بين تركيا وسوريا، عبر جماعات مصالح وعصابات منظمة فيما يطلق عليها مافيا الأعضاء البشرية في تركيا بالتعاون مع عناصر طبية داخل سوريا بالمتاجرة بقرنيات العيون، والتي وصلت إلى 7500 دولار والكلى والتي بلغت قيمتها ما يزيد على 6 آلاف دولار .
5- جماعات تهريب مصادر الطاقة التي تعتبر جماعات ومهربي الفحم في الصومال المثال الأبرز عليها، وحسب تقارير دولية فإن 161 سفينة قامت بتصدير الفحم في الفترة من 2013 ومايو/ أيار 2014 من ميناءي كيسمايو وبرواري في جنوب البلاد، علما بأن ثلث عدد الشحنات كانت باسم رجلي أعمال مرتبطين بحركة الشباب التي تدين بالولاء للقاعدة، ويتكرر النمط ذاته في نشوء جماعات مصالح لتهريب واستقبال النفط، حيث تقوم عناصر “داعش” بتهريب النفط السوري والعراقي، بالتعاون مع شبكات تهريب دولية عابرة للحدود بخاصة مثلث العراق تركيا وإيران، ومن ثم فإن استمرار الحروب الأهلية يعد الضامن الوحيد لاستمرار هذه التجارة الرائجة .
لكن يبدو حسب الدراسة ذاتها أن تأثيرات انتشار تلك الجماعات قد تجاوز الأبعاد الأمنية ليمتد إلى الجوانب الاقتصادية والاجتماعية وهو ما يتجلى على النحو التالي:
– التهديدات والاختراقات الأمنية، وتتبلور بشكل واضح من خلال عمليات تهريب المقاتلين والأسلحة داخل حدود الدول الأخرى، وهو ما انعكس بشكل أساسي في زيادة معدلات العمليات الإرهابية في مختلف دول المنطقة العربية، والتي كانت تعتبر الأكثر استقرارا، وفي مقدمتها مصر وتونس والجزائر، فضلاً عن تفاقم الأوضاع الأمنية وخروجها عن السيطرة في حالات أخرى مثل ليبيا وسوريا واليمن والعراق، علاوة على زيادة مخاطر عودة هؤلاء المقاتلين إلى بلدانهم بعد انتهاء الحروب استنادا إلى الخبرة الأفغانية .
– الخسائر الاقتصادية الفادحة، وتظهر بوضوح في حالات تهريب مصادر الطاقة مثل الفحم في الصومال، فقد بلغت قيمة عوائد تهريبه في عام 2013 وفقا لتقرير صدر عن الأمم المتحدة 484 مليون دولار سنوياً، وهو ما شكل خسائر ضخمة على الدولة، بالإضافة لتهريب المواد البترولية والنفطية من سوريا والعراق، وحسب تقرير صادر عن معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، فقد بلغ إجمالي ما تحصل عليه “داعش” من صادرات النفط ما يقترب من 3 ملايين دولار يومياً، وهو ما يمثل مصدر تمويل لتسلح هذا التنظيم الإرهابي ومواصلة أعماله وتمدده في كل من سوريا والعراق وهو ما يشكل خسائر مالية ضخمة للنظام السوري .
– انتشار مختلف أنواع التجارة غير المشروعة، لاسيما المجرمة دوليا كالتجارة في الأعضاء البشرية، والجثث على الحدود التركية السورية، وهو ما يعد انتهاكاً واضحاً للمواثيق والقواعد والأعراف الدولية بل ومنظومة القيم الدينية في المنطقة، فضلاً عن كونه ينطوي على تهديد أمني واسع باعتباره يفتح الباب أمام المزيد من عمليات الاختطاف والقتل تلبية لاحتياجات هذه السوق غير المشروعة .
ويتوقف الباحث محمد عبد القادر خليل عند تجارة البترول، فيشير إلى أنها باتت تمثل الظاهرة الاقتصادية الأساسية التي ارتبطت بتفجر الصراعات المسلحة في الإقليم، على نحو أدى إلى أن الدولة لم تعد المسؤولة وحدها عن التعاقد مع شركات النفط المستخرجة والمكررة والناقلة والموزعة للنفط، وإنما أصبحت بعض التنظيمات الإرهابية والإجرامية التي استطاعت أن تفرض سيطرتها على حقول النفط وموانئ تصديره تضطلع بهذه المهمة وتقوم بتصديره، حيث يعد بيع النفط مصدراً أساسياً من مصادر تمويل هذه التنظيمات، والتي يأتي “داعش” على رأسها، خاصة بعد سيطرته على مساحات واسعة من الأراضي السورية والعراقية، لتبلغ حصيلة ما يبيعه من النفط حوالي 90 مليون دولار شهريا، وإن كانت هذه العائدات قد تراجعت تحت تأثير الضربات الجوية التي يقوم بها التحالف الدولي ضد مواقعه، وتتراوح نسبة سيطرة هذا التنظيم على عدد الحقول النفطية في سوريا والعراق بين 30 و60 في المئة، حيث يسيطر على أكبر ستة حقول في سوريا ونحو 14 حقلاً في شمال وشرق العراق، إلى جانب ثلاث من مصافي البترول وتضم هذه الحقول ما يقدر ب 20 مليار برميل من النفط بحسب تقرير المركز العالمي للدراسات التنموية في لندن . ويقوم “داعش” ببيع النفط في السوق السوداء بأقل من السعر العالمي بنحو 75 في المئة الأمر الذي من المرجح أن تكون له تداعيات كارثية على مستقبل الاقتصاد في بعض دول المنطقة لاسيما أن النفط يمثل الدخل الرئيسي لها وطبقا لتقديرات بعض الدراسات فإن عوائد “داعش” من النفط وصلت إلى مليار دولار مقابل 500 لتنظيم القاعدة .
وترتبط بتجارة النفط تجارة البضائع، فقد أصبحت عملية الاتجار بالسلع والبضائع غير المشروعة أحد الأنماط الأساسية لاقتصادات الصراعات المسلحة في المنطقة، ذلك أنه في حالات عديدة انتشرت عمليات التهريب لسلع ومنتجات طبيعية لاسيما عبر الحدود السورية اللبنانية، والسورية التركية، لتلبية احتياجات الشعب السوري وفي حالات أخرى انتشرت تجارة السلع غير المشروعة، مثل بيع النفط والغاز السوريين عبر تنظيمات متشددة وجماعات وسيطة ودول وهي تجارة تروج على الحدود التركية السورية حيث قامت العديد من الجماعات المسلحة وعلى رأسها تنظيم “داعش” باستخدام هذه التجارة كواحدة من مصادر الدخل اللازمة لتوسعه وتمدده عبر الحدود، وتتورط في هذه العمليات أيضاً عشائر وجماعات مصالح بهدف تحقيق الربح المادي، والتكيف مع نمط التحولات السياسية والتحديات الاقتصادية، بما أسهم في وجود مجتمع يتبلور من رحم الصراعات المسلحة . كما برز في هذا الإطار عمليات تفكيك العديد من المصانع والورش وبيعها إلى وسطاء أتراك وإيرانيين، وقد أشارت تقديرات في هذا السياق إلى أن حجم التبادل التجاري بين “داعش” وإقليم كردستان بلغ نحو 4 .1 مليون دولار يوميا، موضحة أن هناك مسؤولين حزبيين كبار وقيادات أمنية في الإقليم، يشاركون في إدارة بيزنس التجارة مع تنظيم “داعش”، عبر طرق يديرها مسؤولون أمنيون مقابل إيصال النفط الأسود، الذي يسيطر عليه “داعش” إلى الأسواق العالمية من خلال بوابة إقليم كردستان، والتي ارتفع إنتاجها خلال الأشهر الماضية .
وتمثل الحالة اليمنية، التي اشتد فيها الصراع المسلح بعد سيطرة الحوثيين مدعومين من قوات الرئيس الأسبق علي عبد الله صالح على صنعاء في شهر سبتمبر الماضي، نموذجا واضحا على حالة بيزنس الحروب وحسبما يقول الدكتور حمود القدمي الخبير في الشؤون اليمنية والمقيم بالقاهرة فإن رجال السلطة، وفي صدارتهم صالح وأفراد أسرته وقيادات في الجيش والأمن يتحكمون فعليا في المشهد الاقتصادي في البلاد، ثم جاءت الجماعة الحوثية لتهيمن، وفق منهجية القوة المفرطة على مقدرات اليمن الاقتصادية، بالذات بعد أن أخضعت البنك المركزي لسيطرتها، الذي كان يحتوي على احتياطي نقدي قيمته 5 .4 مليار دولار، ثم سيطرتها مؤخرا على محافظة شبوة النفطية وهو ما جعلها الرقم الأهم المتحكم في المعادلة الاقتصادية في البلاد، وإن كانت ضربات وغارات التحالف العربي ضمن عملية “عاصفة الحزم”، قد قلصت من هذه الأهمية نسبيا، واللافت كما يضيف فإن ميليشياتها تقوم باعتماد سياسة الحصول على التبرعات، سواء بالترغيب أو بالترهيب من قبل التجار والرأسماليين، فضلا عما تقوم به لجانها الشعبية من أعمال نهب منظم أو غير منظم، بالإضافة إلى السيطرة على موازنة الوزارات والهيئات الحكومية، بذريعة أنها تقوم مقام الحكومة من خلال ما شكلته من لجنة ثورية عليا لإدارة شؤون البلاد، ولا تتورع هذه السلطة عن ممارسة أعمال التهريب بمختلف أنواعها، لتوفير موارد لتمويل مجهودها الحربي، مشيراً إلى أن البلاد غرقت في الفوضى العارمة في الآونة الأخيرة في ظل غياب الأمن مما ترك العنان لنمو الاقتصادات غير المشروعة، بما فيها فرض الإتاوات واختطاف الأشخاص الذين يمكن أن يدفع عنهم دية، وهي ممارسات يتميز بها تنظيم القاعدة، فضلاً عن تهريب المخدرات والأسلحة، المرتبط في الوقت نفسه بالصراع في القرن الإفريقي وانضم إلى ذلك الاتجار بالبشر بتأمين واضح من مراكز نفوذ، إلى جانب المساهمة في أعمال ذات صلة بالقرصنة البحرية، المنتشرة في القرن الإفريقي بالذات على السواحل الصومالية القريبة من حدود اليمن .
ويتحدث إبراهيم الغيطاني الباحث بالمركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية عن الأبعاد الاقتصادية الخطرة، التي أفرزتها حالة الاضطرابات التي تشهدها المنطقة، منذ اندلاع ثورات ما يعرف بالربيع العربي، فأغلب هذه الدول باتت تعاني عجزاً في موازناتها، مما شكل مبرراً للتوجه نحو تقليص الدعم مع زيادة معدلات البطالة، وفي الوقت نفسه ارتفعت الموازنات المخصصة للإنفاق العسكري، في ظل الضغوط الأمنية الشديدة، بما في ذلك دول مستقرة مثل منظومة مجلس التعاون الخليجي، لافتاً إلى أن قيم الخسائر التي لحقت بسبع دول عربية شهدت ثورات أو اضطرابات في السنوات الأربع، بلغت نحو 800 مليار دولار وأبرزها مصر وسوريا واليمن والأردن والبحرين ولبنان وليبيا وتونس، وسوريا وحدها خسرت حوالي 140 مليار دولار.
– الخليج