د. فاطمة الصايغ
خلال مسيرة مجلس التعاون والتي بلغت ثلاثة عقود ونيف تفرد مجلس التعاون بتقديم أنموذج مغاير عن كل المنظمات السياسية والاقتصادية التي شهد ولادتها العالم العربي. المخاوف والتهديدات التي أحاطت بالخليج العربي منذ عقد السبعينيات هو الذي دفع دوله للشعور بأهمية التعاون والتكامل وتنسيق الجهود السياسية والاقتصادية والأمنية لحماية مصالحها.
وخلال سنوات التأسيس الأولى عبرت دول المجلس عن مواقف متحدة، كما نجم عن إرادة التقارب عدد من الاتفاقيات الاقتصادية والأمنية والسياسية التي هيأت الأرضية المشتركة لتبلور فكرة المجلس من تعاون إلى اتحاد لاحقاً.
وعلى الرغم من انصبابه في عقوده الأولى على عقد الاتفاقيات والمعاهدات الثنائية التي ترسخ مفهوم التعاون، إلا أنه وفي بداية عقده الرابع شعر بعض أعضائه أن الوقت قد حان لكي يخرج المجلس من نطاق التعاون إلى نطاق الوحدة.
هذا الإبحار باتجاه الوحدة لم يأت من فراغ بل من وحي الأخطار العديدة والكبيرة التي أصبحت تواجه دول المجلس وتؤثر على استقرار المنطقة المحيطة به بشكل عام. فخلال رحلة المجلس من التأسيس إلى الترسيخ أصبحت منطقة الخليج وجوارها أكثر اضطراباً وتوتراً خاصة في ظل ارتفاع وتيرة الصراعات الأيديولوجية والطائفية.
وعلى الرغم من أن دول المجلس حافظت خلال تلك الفترة على تكاملها والتعاون بينها إلا أنها أصبحت وفي ظل تلك الصراعات والخلافات مطالبة بالتقدم خطوة إلى الأمام للوصول إلى أرضية مشتركة أو مظلة جديدة تجتمع تحتها، مظلة تحمي مصالح كل بلدان المجلس صغيرها وكبيرها وتعبر عن أماني شعوبها.
ولكن التطورات الإقليمية الأخيرة قلبت كل الموازين. فأصبح لا مناص من عقد الاتفاقيات مع الدول الكبرى عوضاً عن التركيز على الاتفاقيات الثنائية بين دول المجلس، ولا مناص من إدخال القوى الكبرى في المعادلة السياسية والأمنية عوضاً عن التركيز على الداخل.
كما أصبح أمام دول الخليج سيناريوهات مستقبلية محددة لا خيار أمامها سواها، بعض من هذه السيناريوهات مخيفة لأنها سوف تؤثر، ليس فقط على مسيرة المجلس بل على كينونته أيضاً.
فقد ظهر التباين في وجهات النظر وفي المواقف، خاصة تجاه الأزمة اليمنية وتجاه الملفين السوري والعلاقات مع إيران وكان هذا التباين واضحاً بين دول الخليج وخاصة تلك التي تتطلع للعب دور إقليمي وعربي أكبر.
وهكذا أصبح لزاماً على دول المجلس تبني استراتيجيات جديدة للحفاظ على وحدة المجلس وعلى دوره المستقبلي كمظلة تحمي دوله من أي تهديدات خارجية. وليس خافياً على أحد أن هناك تبايناً ليس فقط في وجهات النظر بل في المواقف بين دول المجلس تجاه ما يحدث في سوريا واليمن ومع إيران.
فبعض من دول المجلس تتبنى سياسة البعد عن الأضواء في محاولة للحفاظ على مصالحها مع كل الأطراف، بينما تتبنى دول أخرى سياسة أكثر نشاطاً وأكثر اندفاعاً في محاولة للنأي بالخليج عن أي مؤثرات تمس بأمنه واستقراره.
كما لا يخفى على أحد أيضاً أن ذلك التباين بين دول الخليج يقدم فرصة سانحة لعدد من الأطراف الخارجية للتدخل، كما يفسح المجال للدول الكبرى لكي توسع مجالات تدخلها اعتماداً على مدى توافق ذلك التباين مع مصالحها السياسية والاقتصادية والأمنية.
وعلى الرغم من أن دول الخليج لم تشهد طوال تاريخها الاصطفاف وراء أي قوة خارجية إلا أن التطورات التي يشهدها العالم العربي في هذه الفترة التاريخية يجعل من ذلك الاصطفاف حقيقة ملموسة.
إن دول مجلس التعاون الخليجي بحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى لتنسيق الجهود السياسية والأمنية والاقتصادية لتوفير أرضية مشتركة تقف عليها لمواجهة التحديات الكبيرة التي تواجه المنطقة في ظل الصراعات والمراهنات والتقاربات الدولية الحاصلة في الخليج.
كما أن هذه الدول بحاجة إلى ترسيخ أسس المجلس كمنظومة تعاونية تعمل كمظلة تحمي مصالح شعوب الخليج والعمل على تقويته وترسيخ دعائمه. ومن هنا لا بد من سرعة التحرك لحماية هذه المنظومة التي لا تعكس فقط تطلعات حكومات المنطقة بل شعوبها.
كما أن المجلس يعد من الإرث الذي تركه الآباء المؤسسون لدول الخليج والذي لا يجب التفريط فيه. فعلى الرغم من كل العواصف والأنواء التي تعصف في المنطقة إلا أنه مما لا شك فيه أن هناك أصواتاً كثيرة عاقلة ترى في بقاء المجلس وقوته رصيداً لدول الخليج العربية.
– البيان