علي أبو الريش
أن تعيش اللحظة مبنية على صفحات القلب من دون رتوش، أن تكون الأنا لديك مثل النهر تجري بلا توقف عند العقبات، أن يكون العقل من غير سوابق فكرة مترسبة، هذه هي السعادة. وألا تجرح ولا تجترح من الماضي ما يعيث فساداً في الروح، وأن لا تعتقد أنك أنت محور الكون وغيرك سواحل مهمشة، وأن لا تكون الفكرة لديك هي الحقيقة التي لا خلاص منها، وأن لا تنحي الاحتمالات إذا ما وصلت إلى قناعة ما في فكرة محددة.
فتخيلوا لو تخلص كل واحد منا من كلمة أنا، لو أصبحت هذه الأنا هم، وعاش الفرد في الكل، دون حدود، ودون سدود ودون صدود ودون مسافات فارغة، تعبث فيها جرذان الأنانية، وتهشم تضاريسها، داحس والغبراء.. يقول روسو: «الأفكار المسبقة مفسدة للعقل»، وتقول الفلسفة: إن الفكرة عندما تصطدم بسقف قاسٍ، تنكسر مثل زجاج النوافذ المرعوبة من صوت الرعد، فلا تفكر في نفسك حتى لا تفقدها، ولا تتجاهل غيرك حتى لا تتعثر في جسده عندما تمر في نفس الطريق الذي يمر خلاله، نحن بحاجة إلى السعادة، لأنها الماء الذي ترتوي منه جذور الشجرة، النفس المطمئنة، نفس سعيدة، والاطمئنان لا يأتي إلا من خلال التخلص من «الغيرية»، فعندما لا يكون لك غير مضاد، فإنك لا تخاف، ولا تقلق، فالاتحاد والتداخل مع الآخر سبيل التواصل الروحي، والطريق المفتوحة إلى جنة السعادة.
السعادة، هي العودة إلى الجِبلَّة الأولى، الرجوع إلى عفوية الطفولة وبراءة زمن اللا زمن، الطفل يصرخ عندما تنفك عنه أمه، ويشعر بالمسافة بينه وبينها كأنها البحر الجارف، ويبتسم عندما يكون في الأحضان، وهكذا فالإنسان مهما كبر يبقى طفلاً كبيراً أو طفلة كبيرة، الإحساس بالجوع النفسي يبدأ من الافتراق، يبدأ من الإحساس بالجفوة، أو الفجوة الحارقة، نحن نحترق عندما تكون أطرافنا خالية من الدفء.
والسعادة أساسها دفء واحتواء وانضواء، الذين لا يحبون يعيشون أبد الدهر بين الجحيم، والفراغ العاطفي منطقة مشوبة بغابة متوحشة.. السعادة أولاً، ولكن السعادة شجرة، ماؤها هو هذا الانثيال الدائم لنكران الذات، والتحرر من صهد الأنا والغير، والتخلص من أحلام اليقظة المفعمة بالحنان إلى ذات خالصة، مجردة من علاقتها بالآخر.
السعادة، مساحة واسعة، تخضر بالأمان، وتتصحر بالأحزان، الذين يفكرون كما هي الأرجوحة، فإنهم يدورون حول أنفسهم، وبالتالي لا يتقدمون خطوة واحدة تنقلهم إلى منطقة أخرى، تبعدهم عن نقطة الارتكاز في المحظور.. نحن نسعى إلى السعادة، ولكن بعضنا يريدها ذاتية، والذات زائلة، وبالتالي تزول معها السعادة، والبعض الآخر يتوق إليها، بحضور الآخر، وهذا هو سر البقاء في قلب السعادة عندما تكون كلية جماعية. تنهل من عرق التضحيات وشهيق الحلم الجماعي.. نريد السعادة، ولكن أحياناً نخطئ في اقتطاف ثمارها، فنقع في فك مفترسة، اسمه الحزن العميق.
– الاتحاد