علي أبو الريش

تحت شرشف الغيمة الرمادية، وغشاء السماء الأبيض، يغرِّد الطير للخلود، لوجود يسهب في استيلاد الفرح، ويسفر عن سلام الناس، والأوطان، والأشجان، والوجدان، والأغصان، وذاك الكائن النبيل عند رصيف الشارع المزدحم بما جاء عن أخبار العاصفة، يحدق في الوجود، ويرسم ابتسامته المتعبة، ثم ينكفئ مخبئاً عرقه تحت القميص الأخضر، الهدير والأزيز، يشقان شراع الفضاء ومسامع الرجل العاكف على مكنسته يرتب أشياء الشارع ويغوص في التفاصيل، هنا تحت الشجيرات تبدو العصافير منزعجة تزقزق بصفير مثل محطات السكاكين، والرجل منهمك يدعك عينيه بأصابع رمادية، مطوقة بخيوط الغبار، ثم ينظر إلى الشارع محدقاً في الأبدية، متدفقاً بوجدان أنقى من الماء الرقراق متداخلاً مع الغبار، وسعار الشارع، وهمجية العجلات الساحقة، وابتسامته شاسعة بمستوى الامتداد في الأفق البعيد، ولكن الآهة تخرج من صدره، كأنها خرير الجداول المتعبة الآتية من قمم شاهقة، هذا الرجل بعد أن يتحرر من الجدل العقيم مع البقايا المتناثرة والنفايات، يأخذ زاويته القصية، ينزوي ويربع ساقيه ثم يفتح رباط البقجة، يفتح أفق القماشة المتواضعة، ويلتهم، ويقضم، ويهضم، وعيناه تطاردان الغيمة الذاهبة إلى البعد الأنيق من زاوية السماء وهو يتمتم يا رب خففها عليَّ العصف مرعب، وقدماي لا تحملان، ويداي لا تتحملان أكثر بعد ساعتين وتأتي المركبة البيضاء في هذه اللحظة سوف أقفز مثل عصفور يفر من هدير رهيب.. أتمنى ألا يحدث شيء خلال هاتين الساعتين أشعر بالفراغ، وكأنه الوادي السحيق يبتلعني ويتذكر.. يتذكر الزوجة الشابة، السمراء، ذات القرطين الصغيرين، عند أرنبتي الأذنين، لقد اشتريتها لها قبل عامين، والآن أوصتني بقلادة ذهبية. والقلادة لا تأتي إلا بمزيد من العرق.

ابتسم الرجل، تذكر الزوجة، تذكر عينيها الواسعتين، ثم قال فدتك حياتي يا حياتي.. ثم يلملم بقايا طعامه، ولم يبق سوى أطراف رغيف يابس، قرطاسة مثلث الجبنة، ثم يرفع يده.. شكراً.

شكراً لهذا البلد الجميل، وأهله الخيرين، لا يجوع أحد هنا، الناس هنا أوتاد لخيمة واحدة.. يرفع بصره، العصافير لم تزل تزقزق، والشاحنات تهز أسفلت الطريق حتى تكاد أن تقتلعه، بعض السائقين ينهشون الشوارع مثل جرافات الرمل، القوانين لم تشفع، والشوارع الفسيحة المنظمة لم تنفع، لأن الثقافة لم تزل، تمضغ بقايا حكايات عنترة بن شداد، وأخيه شيبوب يتجشأ الرجل، وينظف يديه ثم أسنانه بفرشاة من خوص النخل، ويعود ثانية للمكنسة للشارع، للأوراق اليابسة، والأغصان الملقاة عند طرف الشارع.. ثم بلهجة مازحة يقول.. أنا مكنسة الشارع، ولولاي لَما أصبح الشارع مثل سجادة مشرقة جلبت للتو.. يبتسم.. تخرج من فمه ضحكة مجلجلة.. وعصفور قريب يطقطق طرباً..
– الاتحاد