سامي الريامي
في أواخر شهر أغسطس من العام الماضي 2015، تعرّض التراث البشري لأكبر ضربة تدميرية مُسحت فيها آثار إنسانية في غاية الأهمية، حيث دمر تنظيم «داعش» الإرهابي المتطرف قوس النصر الذي يعد بوابة مدينة تدمر الأثرية في سورية، وذلك بعد أشهر قليلة فقط من تدمير معبدَي بل وبعلشمين الأثريين.
يقع القوس في أول الشارع المستقيم، وهو عبارة عن بوابة ذات ثلاثة مداخل فوقها قوس تُزينه نقوش هندسية ونباتية، بناه الإمبراطور الروماني، سيبتيموس سيفروس، بين عامي 193 و211م، وظل قوس النصر منذ ذلك التاريخ شامخاً للأجيال المتعاقبة إلى أن جاء أعداء الإنسانية، وأعداء الحياة، وأعداء التاريخ، وأعداء أنفسهم قبل كل شيء، ليقرروا تدمير معلم من معالم الإنسانية، ويزيلوا تراثاً حضارياً عريقاً بأسلوبهم الهمجي العقيم.
الإرهابيون رسالتهم واضحة، نشر العنف والكراهية والموت والدمار في كل مكان، وفي مقابل ذلك هناك رسالة راقية حضارية مضادة، رسالة إنسانية تعلي شأن الإنسان، وتنشر السلام والمحبة والتعايش بين كل البشر بمختلف أشكالهم وألوانهم وثقافاتهم وتوجهاتهم الدينية، رسالة خالدة من شخص كتب التاريخ اسمه بحروف النور، لأنه يعشق النور المتمثل في العلم والحب، ويكره ظلام العنف والجهل..
رسالة عربي مسلم حر يدعى محمد بن راشد آل مكتوم، مفادها: «ما يدمره أعداء الحضارة نحييه.. وما يهدمونه نقيمه.. وحضارة المنطقة هي تراث عالمي نشترك جميعاً في الحفاظ عليه»، هذه الرسالة لم تكن مجرد كلمات بل كانت فعلاً مميزاً أذهل العالم، هذا الفعل هو إعادة بناء نسخة من قوس النصر بكل تفاصيله الدقيقة، هذه النسخة البالغ ارتفاعها 5.5 أمتار صنعتها آلات حفرت الأحجار بالشكل والتصميم نفسيهما اللذين كان عليهما القوس الأصلي، وباستخدام الرخام المصري، وذلك بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد، وعرضه في نيويورك ليخلده العالم وتتعرف عليه الأجيال المقبلة.
صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، خدم الإنسانية بهذا المشروع الذي يحمي به التراث الإنساني من الزوال، لذلك شملت رؤيته ما هو أبعد من بوابة تدمر، فكان المشروع الأشمل وهو إقامة شراكة استراتيجية بين دولة الإمارات مع منظمة اليونيسكو، ومعهد الآثار الرقمية البريطاني، المشروع المشترك بين جامعتي أكسفورد وهارفرد المرموقتين، وذلك في إطار مشروع عالمي يهدف إلى توثيق تفاصيل المواقع الأثرية في المنطقة بتقنية التصوير ثلاثي الأبعاد، ومن ثم إعادة بنائها بالكامل من خلال تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد لحمايتها والحفاظ عليها من الاندثار، في حال تعرضت لمخاطر تهدد وجودها باعتبارها إرثا حضارياً إنسانياً..
إنها رسالة من الإمارات وقيادتها للعالم بأن تاريخ المنطقة أكبر من أي أيديولوجيات أو أفكار متطرفة تحاول محو هوية المنطقة وتدميرها، كما أنها رسالة على تطور الدولة وتقدمها التقني، وكيفية وضعها هذا التطور تحت تصرف التراث الإنساني ولخدمة الإنسانية، كما أنها رسالة تؤكد فيها الإمارات أن المتغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم لن تثنيها عن استخدام التكنولوجيا الحديثة في الحفاظ على آثار قديمة وتراث خالد، وحمايتهما من الاندثار والتدمير، حتى تبقى تلك الشواهد حية وماثلة أمام الأجيال المقبلة على تاريخ حافل بإنجازات الإنسانية على مر العصور.
الامارات اليوم