جمال بن حويرب المهيري
ذكرتُ في مقالاتٍ سابقةٍ أهمية اللهجة المحلية وتوثيقها الصحيح، قبل أن يعمّها النسيان وتندثر كما اندثرت كثير من المفردات القديمة التي لا تكاد تسمعها هذه الأيام تدور على ألسن الناس، فقد رحلت منذ فترة طويلة عن معجمنا الصغير الذي يتناقص كل يوم، وحلت محلها كلمات جديدة بل دخيلة تمتاز بركاكتها وبُعدها عن الفصحى وابنتها اللهجة المحلية، والأمر قد تجاوز النسيان في بعضها الموجود.
حيث بدأ الجيل الجديد يحاول تفسيرها تفسيرات عجيبةٍ ليس لها علاقة بمعناها الحقيقي، والأدهى والأمَرّ من هذا أنّ بعضهم جهلاً يدافع عن هذه التفسيرات الخاطئة أو الأساليب اللغوية التي ليس له صلة بنا إلا حديثاً، بعد اختلاط الألسن في هذه البلاد، تماماً كما حصل في أوائل الدولة الإسلامية، حيث انهارت الفصحى أمام مختلف الألسن العالمية آنذاك الذين اختلطوا بهم، ولولا أنّ الله ضمن حفظ قرآنه الكريم لضاعت العربية إلى الأبد.
وكم عجبت منذ أيامٍ من مجادلة أحد الإخوة لي في مقهى الأخ «تويتر»، حيث أراد إثبات صواب من ينطق «كليت، وشربيت» بإضافة الياء بدل «أكلت، وشربت» الذي أجمعت على عدم صحته وقبحه الفصحى والعامية، وقد أجبته بأجوبةٍ ظننتها مقنعة ولكنها لم تقنعه، وأصرّ على أنّها لغة كبار السنّ الذين يعرفهم!! فقلت: لقد كانوا يضربون الصبيان على نطقها فكيف تكون لهجة كبار السنّ؟ ولكن قل إنها آفة لسانية محلية تنتشر مع قلة الوعي.
نسيان اللهجة
كل سنة تمرُّ على هذه البلاد، يبتعد الناس عن لهجتهم القديمة بموت كبار السن أولاً، وتغير الأدوات والمسميات القديمة ثانياً، وكذلك ابتعاد الناس عن كل ما كانوا عليه في الماضي، وهذا يحصل مع جميع اللغات واللهجات، ولكن الفرق أنّ التغير يحصل في قرونٍ عند غيرنا وليس في عقدين أو ثلاثة كما حصل في هذه البلاد الطيبة، حيث أصبح لدينا عدة لهجات خلال أربعين سنة:
-لهجة كبار السن التي لا يعرفها كل الجيل الحديث.
-لهجة جيل الستينيات الذين يصلح أن نسميهم المخضرمين.
-لهجة جيل الاتحاد وأفضلهم لهجة من كان أكبر سناً منهم.
-الجيل الحديث وهو جيل ما بعد الفضائيات التي أتت بجميع اللغات واللهجات إلى البيوت بعد أن كانوا يشاهدون قنوات دولتهم فقط، فصاروا أبعد الناس عن لهجة آبائهم وأساليبهم وأقلهم مفردات، ولهذا تراهم يعتمدون على الإنجليزية، لأنها لغة دراستهم، ويستطيعون إدراك المفردات الحديثة من خلال معاجمها، على عكس اللهجة المحلية التي أصبحت في طيّ النسيان أو الفصحى التي تحتاج إلى فتح الكتب والمراجع اللغوية وهي لا تستخدم في الحديث اليومي.
اللغة الإنجليزية تحل محل العربية
عبر السنين دخلت في اللهجة العامية بعض المفردات الفارسية والتركية والإنجليزية والهندية، وهي محصورة وقليلة، وكان ذلك في الماضي، أما ما نشاهده اليوم فهو خسف باللهجة والفصحى جميعاً، حيث تتعود الناشئة على الحديث باللغة الإنجليزية في كثير من الحديث، بل في الكتابة أيضاً، وذلك بفعل التعليم الأجنبي في المدارس والجامعات وهم في ذلك أنواع:
– من يفتخر أمام الناس بمعرفة الإنجليزية.
-من لا يحسن العربية ويستعيض عنها بلغةٍ أخرى.
-من يحتقر اللغة العربية ويجد أنّ الإنجليزية أولى بالحديث من لغته الأم.
وكلُّ هؤلاء مخطئون مجانبون عن الصواب، لأن اللغة العربية هي عزهم ومجدهم، ولن يصلوا إلى ما يريدون من الرفعة والمكانة الدولية بالفخر بغير العربية، ولهجتنا العامية ما هي إلا جزء من لغتنا العريقة التي تفوق كل لغات العالم مفرداتٍ ووصفاً وبلاغةً وشعراً وأدباً.
وللحديث بقية.