علي أبو الريش
اليوم، بعد أن اكهفرت الدروب، وضاقت القلوب، واشتدت الخطوب، وملأت الأحقاد الدنيا واستعمرتها، واستولت على خيرات الحِلمِ والعِلم والفَهم، أصبح من الأمور المستحيلة أن تفرق ما بين الضباب المخيم والغيم المهيمن، فالرؤية تغشاها غاشية الارتباك والحماقة والعصبية الجاهلة، والأفكار تسبح في بحار ضحلة وتمشي على ترب مضمحلة، واختلط المفتي بالمغنِّي، والمفكر بالمستهتر، والمُنظِر لمتعاطي المخدر.
والقائمة تطول بمن يسطرون ويخططون ويهندسون ويضعون النواقيس والقواميس والنواميس والفوانيس للناس البسطاء الذين لا حول لهم ولا قوة، غير أنهم أجبروا على سماع ما لا يصدقه عقل ولا يقبله منطق، لأن الفضاء المفتوح كالثوب الفضفاض، مخاضه هواء ملوث يدخل من جهة إبط ويخرج من الجهة الأخرى، ولا معنى ولا مغزى، ولا هدف غير الجعجعة من غير طحين، والمعمعة في حارة المحتالين الذين يريدون أن يحتالوا على الإنسان ليحققوا ذواتاً مريضة “أنا” أصيبت بداء التضخم حتى تورمت وانتفخت فانفجرت معلنة دوياً أشبه بالمفرقعات.
اليوم، بعد هذا التسونامي العاطفي والثقافي المرتبك أصبح من المعقول أن نسمع أقوالاً، ونرى أفعالاً، ونلمس أحوالاً، ونعيش أهوالاً جراء هذا التهتك في الجسد العقائدي بعد ما ساوره هجوم المنتفعين والمتسولين والمتوسلين والمتسللين والمتلصصين والمتصدين والقابضين على جمرة الحقد والكراهية لكل ما هو جميل في هذه الحياة، والساعين دوماً لحقن الجسد الإنساني بأمصال ملوثة ما جرّت على الأمة إلا الويل والثبور وعظائم الأمور ما جعلنا نعيش في ذيل الأمم، لأن من يفكر في تفقيه الناس وضع يده سالفاً في ماء آسن وصبّه في وجوه الناس، وغمس رأسه في تربة طينية وأراد أن يغسله في الهواء الطلق، فإذا بغباره يلوث ويعبث ويسيء إلى خلق الله ومعجزات رسوله الكريم.
ولأن من يفكر في توجيه النصيحة غفا فجأة وصحت نفسه الأمارة فأتمر بأمرها فانحرفت به نحو الشتائم والإساءات وتلوين الأشياء باللون الأسود القاتم حتى عتمت رؤيته ولم يعد يرى ولا يميز ما بين الأبيض والأسود، ولا ما بين الخير والشر، ولا ما بين الحق والباطل، بل إنه كرس علمه وجهده لأجل أن يسيء ليثبت أنه على حق، وأنه النصير الواحد الأحد للمظلومين والمغبونين.
مثل هؤلاء نماذج تتحرك في الهواء الطلق، ولديها من الأبواق ما يدفعها ويشجعها ويدعمها لمزيد من النيران وانتشار أوبئة الخراب في الضمائر. مثل هؤلاء يجيدون ركوب الموجة، ويعرفون جيداً من أين تؤكل الكتف لأنهم سباحون ماهرون، وفرسان في ارتكاب خطيئة الكذب والافتراء.
– عن الاتحاد