علي أبو الريش
وأنت تمشي في شوارع المدينة، عاصمتك المبجلة، والمطر يأمر زخاته بأن تبلل ريق الشجر، تشعر وكأنك برفقة طفلة رُسمت على شفتيها حبات من برد، والسماء لم تزل تغسل المكان، بمكنسة الود، وبرفق العاشقين، تمسد الخصلات بنعومة الأظافر.
هذه المدينة، هذه الطفلة الغريرة، هذه السنبلة النابتة عند الجبين اللجين، تضيف إلى الجمال جمالاً، فتشعر وكأنك بين الولدان والحور العين، ملكاً متوجاً بالأنفة والكبرياء وحسن الطالع، تشعر أنك في مدينة اختزلت الزمان والمكان وصار التاريخ في خدمة تطلعاتها، يفصل لها ثياب الفرح، بأناة وتؤدة، يحرك لها عجلة النمو بقوة الإرادة، يحركها باتجاه غايات وأمل، لا تنطفئ أنواره، ولا تختبئ أدواره، ولا تتوارى أطواره، لأنها المدينة المطرزة، بعيون الساهرين على مجدها، القابضين على وجدها، المعتصمين بوجودها، الذاهبين بأعراسها نحو السرد المفعم بالمعنى، والعبارة الأنيقة.. أنت في المدينة تشبك يديك بيدي طفلة، أحبت الحياة، بدنف دون كلف، واعتصمت بحبل المعرفة الوارفة بخضرة العشاق، وأشواق الذين روضوا الصحراء، حتى صارت إبلاً بخفاف نحاف تخوض المعترك بسعي ووعي، تباركها السماء، فتزف الهطول عطاء ربانياً، لا ينضب ولا يحجب، ولا يقضب، ولا يعتب، ولا يغضب، ولا ينكب، ولا يتسرب إلا في العروق لأجل الشجرة، شجرة الاتحاد.
وأنت في المعنى، في حضن المدينة، في الصلب والترائب، تحث الخطى بفرحة الأطفال، تمد يداً تتلقف النعيم، بلهفة وبهجة، تتلمظ القطرات بشغف المتشوقين، بعذاب النجوم المختبئة خلف الغيوم، المطلة على نافذة القلب، المتلألئة في المشاعر، كقلائد أنثى في ساحة وهج كوني، يكللها بالآمال العراض.. أنت في المدينة، أنت تحت المطر، أنت في حضور الاحتفال البهيج للطير والشجر، للشامخات العوالي، يغسل قدودهن، غيث جاء رحمة ونعمة، أنت في المدينة، والنث يزخرف الشارع بحبات لؤلؤية، كشموع الفرح، تنثرها المزن، الطالعة من كبد السماء، النابتة من فوح الدعاء، والناس، كل الناس من حولك، يرفعون النشيد عالياً، أغنيات ترتب مقاماتها، عيون لمعت سروراً وحبوراً.
أنت في المضمون، ترقب عن كثب كيف يتفنن الغيم، في نقش الرسالة، وكيف تتزين الأرض ببياض الحلم، وكيف تبدو الوجوه، كأنها الأقمار في عهدها اليانع، وكيف تمارس الطيور رقصة «العيالة»، وكيف تصب أشواقها للمطر، بوله المسافر البعيد، إثر عودة حميدة.. وأنت في المدينة.. عاصمتك النبيلة، يطرح المطر أسئلة الوجود المفتوحة على فضاءات القلب.. والعقل.. والروح ثم تكتسي روحه التلاقي والتساقي، والتسامي، غارقاً في الرشفات، كفراشة تحدق في الزهرات، ثم تهيم في الرحيق عاشقة متناسقة متألقة، متدفقة في السر، سر الوجود
– الاتحاد