أهدى جون شتاينبك (1902 ـ 1968) روايته الشهيرة «عناقيد الغضب» إلى بلاده عاكساً في متنها، عبر لعبة المرايا الروائية، الواقعة الكارثية التي عاشتها الولايات المتحدة الأميركية خلال الكساد العظيم: مرحلة عاشها الروائي، المتحدر من عائلة متواضعة، وشهدها جيداً، إذ كان يبلغ السابعة والعشرين من عمره وقتما وقع الانهيار المالي في البورصة.
أصدرت مطبوعات سيجيرس مؤخراً وثيقة استثنائية غير منشورة من قبل: «يوميات العمل»، التي كتبها خلال انعكافه على إبداع ما بقي خالدا «عناقيد الغضب».
ما الوقت اللازم لكتابة عمل كبير؟ خمسة أشهر وحياة بأسرها: الحياة التي سبقتها، وربما، في الظل الحياة التي تتبعها. نعرف أن تحرير هذا الكتاب احتل مكانة خاصة في حياة الروائي الأميركي. بعد ثلاث سنوات من روايته «تورتيلا فلات»، وبعد عام من «رجال وفئران» ـ اللتين حققتا نجاحاً جماهيرياً كبيراً ـ بدأ في كتابة هذه العناقيد «المرة» على وجه الخصوص. وخلال مراحل الكتابة، التزم بنظام صارم، محللاً بدقة كل ما خطه وكل رهاناته. تأملاته، خلال يونيو وأكتوبر من عام 1938، يتبدى: الكساد العظيم لم ينته بعد، الحرب العالمية الثانية لم تعلن بعد. ولكن شتاينبك «يغلي»: إبداعه على المحك، وفي هذا الكراس، أخذ يسطر هذه التجربة بكل تفاصيلها، وهو يكشف عن التوترات التي يجتازها وقت العمل. بالنسبة «لعناقيد الغضب»، عاش قلقاً رهيباً. عمل خالد أو لاشيء؟ أغلق الباب على نفسه، عانى كثيراً مع كل كلمة، وكل جملة، متسائلا عن خياراته، وغير راض عن كل ما يفعله دوماً.
على أي حال، تتبدى ماهية كتابة اليوميات لقرائها: «أخشى البدء في كتابتها، ولكن هذه اليوميات فكرة طيبة: تبين لي كل صباح وظيفة الكتابة»، كما كتب.
خلال هذه الشهور الخمسة، «ألقى العالم كله خلف ظهره»، حياة الآخرين، الحيوات المستقبلية: الجار الذي يعمل في حديقته، آلة الغسيل التي تدور، الأصدقاء، المنزل الواجب بيعه، والآخر الواجب شراءه، كل ما يثير القلق ويجعل المرء عصبيا. في 26 سبتمبر 1938، كتب: «هذا الكتاب عملي الوحيد ومن الضروري أن أنشغل به، ولا شيء آخر. هذا الكتاب حياتي في الوقت الحاضر حيث يجب أن تكون. حينما أنتهي منه، سوف يأتي وقت لحياة أخرى. ولكن ليس قبل الانتهاء منه. والحيوات الأخرى بدأت في الإعداد لهجوم مضاد، من دون شك. ولهذا أخذ كثيراً من الوقت لكتابة هذه اليوميات في الصباح، لكي أهدئ من روعي».
في هذا الكتاب، يستطيع القارئ أن يخترق رأس الروائي كما عمله السردي. نكتشف «الشكوك التي تنهشه، بارانويته المستترة، العقبات (المنزلية دوما) التي تنتصب أمامه، ولكن أيضاً وبالأخص عزمه الذي يدفعه إلى مواصلة الكتابة»، حسبما أشارة الناشر.
تصوراته وتكوينه للعمل: حكايات تخدم السرد، مسودات انتهى إلى تجاهلها، تخطيطات الخ.. هكذا، نكتشف أن زوجه هي من وجدت العنوان في آخر الأمر بعد معاناة وبحث طويل عنه، وأنها من كتبته على الآلة الكاتبة، وأن توم كولينز، المهدى اليه الرواية إلى جانب زوجه، هو من أمده بمعلومات كثيرة عن المهاجرين.
علاوة على ذلك، الكراس يجتاز نشر «عناقيد الغضب»، ويصل إلى عام 1941: النجاح النقدي، التجاري، جائزة بوليتزر، الفيلم الذي حققه جون فورد، وكذا المناقشات والتهديدات التي لحقته من كبار الملاك والمصرفيين الذين أرادوا لا قتله فقط وأنما تدمير سمعته بالكامل. أندلعت الحرب العالمية، وانتهى زواجه الذي تحطم بسبب هذه الرواية.
الاتحاد