منذ سنوات كنت أفكر برحلة برية طويلة، ولكن كنت أؤجل ذلك، إلى أن عزمت على القيام بهذه الرحلة قبل شهر، من الإمارات إلى الأردن، ذهاباً وإياباً. جهزت كل أمور السفر بدءاً من دفتر تسفير السيارة (تريب تيكيت) من نادي السيارات في دبي، وتأشيرة المرور بالسعودية، وكذلك الفحص الشامل للسيارة، وانطلقت بعد منتصف الليل من الشارقة إلى دبي، ثم إلى السمحة، فالمفرق وطريف وغياثي الرويس والسلع وحدود الغويفات، وهي مسافة تصل إلى نحو 500 كيلومتر داخل الإمارات، وعلى طول الطريق محطات للاستراحة والتزود بالوقود وصيانة المركبات، ودوريات للمرور. ومع الفجر كنت على الحدود ولم تأخذ الإجراءات سوى دقائق، حتى دخلت الحدود السعودية، وكانت الإجراءات سريعة أيضاً، لتبدأ الرحلة في مرحلتها الثانية، إذ التقيت مع صديق قادم من الدوحة هو الأديب والصحافي محمد هديب، لنترافق في الرحلة الطويلة التي تصل إلى أكثر من 2400 كيلومتر. وكما عودتنا أمهاتنا «الرفيق قبل الطريق»، وكان صديقي نعم الرفيق حقاً وبكل المقاييس، بحيث لم تظهر علينا «وعثاء» السفر، كما يحلو للبعض وصف مشقة السفر.
خلال الرحلة كانت أسماء القرى والبلدات تلفت انتباهي، ومن بين تلك الأماكن «طريف»، إذ إن هناك منطقتين بالاسم نفسه، أولاهما في الإمارات وثانيتهما في السعودية، إذ مررت بطريف مع بداية الرحلة، وكذلك قبل الحدود السعودية الأردنية. ومن بين أسماء المناطق ما يحيل إلى التاريخ العربي القديم، مثل البطحاء، وعبر المرور بتلك المناطق تخطر في البال صور شعراء وفرسان وحياة كانت في تلك الصحارى الممتدة على طول البصر. ولفتت انتباهي شعرية اسم عين الحواس وهي قرية في محافظة القريات، وعرفت انها تضم مناطق أثرية وسيتم تحويل قصرها القديم إلى متحف للملح الذي تشتهر به المنطقة.
قرى وبلدات ومناطق شاسعة على حواف الربع الخالي، وكأن الطريق لا ينتهي، فمن الغويفات الى البطحاء وسلوى التي تقع على مفترق طريق قطر، ثم الهفوف وحفر الباطن ورفحاء التي نمنا فيها ليلة وعرعر وطريف والحديثة وحدود العمري الأردنية والأزرق ثم عمّان، وبين تلك المناطق قرى متناثرة في تكوينات صغيرة في الصحراء كأنها حروف في لغة الرمل، خلال الرحلة، العين على الشارع وما يحيط به وعلى المرايا، تتنقل في دورة الزمن والمسير والمسافات، وقد صادفتنا جمال تعبر الطريق، وهي بيضاء وسوداء وبنية اللون، تمشي بتؤدة، غير آبهة لمسافرين يعبرون، إذ إنها تسير في مكانها الطبيعي، في بيتها الصحراوي الشاسع، وما المركبات سوى «كائنات» معدنية تسير على الإسفلت.
في طريق العودة إلى الإمارات كانت أصعب مرحلة من سلوى إلى البطحاء، خصوصاً أنني وصلت إليها ليلاً بعد وداع رفيقي الذي أكمل إلى مدينة الدوحة متأبطاً تعبه ومجموعته الشعرية «على سرعة 40»، التي صدرت في عمّان.
في الطريق إلى البطحاء كانت العتمة في أشد حالاتها، وهناك ظننت أنني أسير في طريق وسط غابة كثيفة تحيط به من الجانبين، ثم تهيأ لي أنني اسير في نفق ذي قوس عظيم، حينها تذكرت ما قاله صديقي عن «الهذيان البصري»، الذي يحدث في مثل تلك الرحلات ليلاً، لكنني كما أرى أن السراب لعبة تتسلى بها الطبيعة الضجرة، رأيت أن الهلوسة البصرية، ما هي إلا استدعاء لماضي الصحراء حين كانت غابات وأنهاراً ذات يوم.
– الامارات اليوم