ترك النحات البريطاني ريتشارد هادسن، عمله الفني «love me»، على ممشى الواجهة المائية بجوار «دبي مول»، ليضعنا مجدداً أمام الأسئلة الجمالية لأبعاد شعور الطاقة التي تفرزها الأعمال الفنية في الأماكن العامة. ويمكن القول إنه رغم حساسية التجسيد التجريدي لماهية شكل «القلب»، في التصور الإنساني من قبل ريتشارد في عمله، إلا أنه استطاع بشكل بديع أن يجعلنا نتفاعل مباشرةً مع المنحوتة، بإظهار فضاءات الزمن، عبر عملية توهم «الاختراق» في القلب نفسه، والذي يؤسس موجة من التأويلات لدى المتلقي، ويثير بالأخص حاجة الإنسان لتجاوز المنهج العقلي المعتاد والرتيب، إلى مغامرة التكشف أمام الأعمال الفنية العامة، تثريها حالة التشارك بين مجموعة من الناس، يكاد يكون الترابط بينهم غير مقصود، حيث يأتون لالتقاط الصور مع العمل الفني، إلا أن حضورهم بحد ذاته، يؤكد فعل «الانضمام» إلى عملية التمازج التفاعلي مع العمل، وبالتالي يخلقون بجمعهم تجربة ما في المكان.

وقوف القلب
في حواره مع «الاتحاد»، أكد ريتشارد هادسن، أن المستوى الذي يقف عليه «القلب»، وحالة الاتزان، تمثل السر الكامن في مهارة الصانع، كأنه يقولها مباشرة: لا أود الكشف عن ذلك الاحتمال البديع الذي تمكنت من استمالته في مخيلتي، وحولته إلى تكوينات مادية، وبه يقف القلب على أصابع قدميه، بثبات، وبالرغم من حجم العمل الفني، إلا أنه يكاد يكون عائما.
لا شك أنه وصف لطيف من قبل ريتشارد، كون الشيء العائم، يهدي الناظر طبيعة مغايرة للبيئة المحيطة بالعمل، الأجواء والمناخ المرتبطة بنسبة حضور الماء في الطقس عموماً، فالشخص لا يعوم إلا في محيط مفتوح أو في بحيرة ساحرة، يقول ريتشارد هادسن: «يحتوي التمثال على طاقة ثابتة يمكنها نقل الكثير من الطاقة».
شغفولعل أحد أشكال ترجمة هذه العبارة هو الشغف الذي يحتلك حين ترى برج خليفة ومنطقة وسط المدينة في حالة انعكاس تام في المنحوتة، فالناظر إليها، لا يرى فقط العمارة، ولكن يستمد منها قوة البيئة الطبيعية وقدرتها على التجسيد. وبالرجوع إلى منجزات ريتشارد هادسن، (منحوتة «دمعة» الشهيرة مثلا) فإن اشتغالات الفنان قائمة على البعد العضوي، المرتبط بالحياة الطبيعية، الممتدة في أغلب أعماله، باستحضار عفوية حالتنا الفطرية إلى أجواء وسط المدن، في هذا المحور يوضح ريتشارد هادسن: «نشأت في مزرعة في الريف الإنجليزي، لذا فإن الأشكال التي تهمني تأتي في الغالب من استيعابي للطبيعة في سنوات تكويني. لقد عشت في المدن لسنوات عديدة حتى الآن، ومنها فإن ممارستي تعتمد على المدن. آمل أن يشعر الأشخاص الذين يشاهدون عملي في وسط المدينة بالانتعاش والحيوية، عبر انعكاس الأشكال المعمارية على الأشكال العضوية للقطع الخاصة بي. وبدوره يمكن أن نستشف انعكاسات السماء والماء. إنها رقصة بين البيئات التي من صنع الإنسان والبيئات الطبيعية.

شعر منحوت
الشفافية في العمل الفني هي إدراك المتلقي للحساسية المفرطة في ذراتنا البشرية، هل فعلاً المنحوتات الفنية جزء من قصائد شعرية لم تكتب بعد؟ في هذا التساؤل، أبدى ريتشارد هادسن، اهتمامه قائلاً: لقد كتبت الشعر في شبابي، كطريقة خاصة لفهم العالم. لذا، نعم، أعتقد أن هناك حوارًا بين الشكل المنحوت والشعر. إنهما طريقتان لتغليف الشعور. كان أثر توصيف ريتشارد هادسن للتمازج بين الشعر والمنحوتة، بأنهما أسلوبان لـ«تغليف»، المشاعر، يحمل نوعاً من الرقة غير المتوقعة، توحي للمتلقي بأن جّل التعابير الفنية والأدبية، تشكل سلسلة من الاتصال الدائم، اللانهائي. لم أسأل ريتشارد هادسن، إذا ما استمر في كتابة القصيدة، ولكن حضور منحوتاته بهذا الإحساس الأنثوي، الرقراق، يؤكد أن الشعر لديه اتخذ مجرى مختلفاً للتعبير عن نفسه، وقرر حرفياً أن يتجسد في شيء ملموس.
نبحث كثيراً عن فكرة البيئة المستدامة، وإمكانية التأثير عبر الفنون، وفي محاولة لقراءة بُعد انتقال الفنان بأعماله خارج نطاق الإرادة الجغرافية مع مفاهيم عالمية مرتبطة بالبيئة، كان السؤال: هل يمكن اعتبار وصول أعمالك إلى صحراء الخليج دلالة لأثر وصوت الفن؟ وهل يمكنك أن تشاركنا تعريفك الخاص بمفهوم البيئة الطبيعية؟
رأى ريتشارد هادسن، أن الطبيعة هي مصدر كل غذائنا، سواء من الطعام الذي نزرعه أو ببساطة الانغماس في الطبيعة، كطريقة للعودة إلى أنفسنا، متأملا أن تعيد السطوح العاكسة والأشكال العضوية في عمله المشاهدين لأنفسهم كأشخاص ضمن إطار الطبيعة الأكبر.

الاتحاد