د.علي عبدالقادر

في أسبوع احتفاليات الشعب بيوم الوطن، من يحتفل فعلاً ليس الشعب بل الوطن. من يفرح ويبتهج ويعلو ويسمو إنما هو الوطن. وهل الوطن إلا الإنسان! وهل الإنسان سوى الوطن! وسواء كان التعبير عن الفرح بالاحتفال أو بالحفل، بالكرنفال أو بالرزف، بالمهرجان أو بالمسيرة، فإنما هو صورة، الأصل يبقى دائماً في سويداء القلب.

مع نسمات يناير الباردة، وفي أيام ديسمبر الأولى، ستمر الذكرى مروراً حانياً كحنو الأم فالوطن أم، حميمياً كالأرض رقيقاً كالسماء فالوطن أرض وسماء، جميلاً كوجه الحبيب فالوطن عشق، شاعرياً كأبيات قصيدة عشق طللها حاضر، ومسيرها واصل، ومديحها صادق، ونوالها وافر.

أتذكرُ في هذه الأيام صديقاً كنت التقيته في لقاء عابر على شاطئ جميرا قبل أن تنبت رمال الشاطئ أبراجاً، كان يجلس على شاطئ البحر في الليالي المقمرة، ويسند رأسه على عودٍ عربي أصيل ويحرك الأوتار بحنين، ويدندن. أوقف الدندنة مرة وقال: أتعلم أني أنا من صمم علم الإمارات! كنا صغاراً في المدرسة، جاءتنا الأخبار بأن زايداً وراشداً سيعلنان اتحاد الإمارات، طلب منا المعلم أن نضع علماً للدولة الناشئة. بأناملي وضعت الأحمر يميناً جهة البحر، رفعت الأخضر لترتفع الأرض، وبين سواده البراق وبياضه الوضاء كنت أحلم بالنور. كلنا كنا ذلك الحالم العازف. وكان شعور صديقي ذلك يعكس مشاعرنا جميعاً، من أبناء ذلك الجيل، بأننا مشاركون، على هذا النحو البريء، في تصميم علم بلادنا.

أتذكرُ وقوفاً صباحياً يومياً متكرراً، مع الرفاق، صامتين للعَلَم، منصتين للمعزوفة الأجمل، ثمة خطوات على عجل من مدير المدرسة، بيده أوراق كثيرة، كثيرة جداً، بعدد طلاب المدرسة جميعاً، نادى طالباً من كل صف، أعطاهم الأوراق ليوزعوها على الجميع، ثم بدأت المعزوفة، وقال اقرؤوا. لم نكن نحسن القراءة لكننا قرأنا من القلب: عيشي بلادي. وما زلنا نردد عيشي بلادي. لقد حفظنا الدرس الأجمل.

أتذكر صباحا كانونياً غائماً، ركبنا فيه السيارة منطلقين إلى عجمان لنفرش سفرة الإفطار على رمال شواطئها الناعمة، ونعرج على كثبان أم القيوين الذهبية، منطلقين لنسبح في عين خت برأس الخيمة، ونتفيؤ ظلال سمرة عظيمة في وديان الفجيرة. فإذا أمست الدنيا، بتنا في الشارقة، وأصبحنا في دبي، لنعبر إلى عاصمة العز أبوظبي. لم نكن نتنزه، كنا نغازل الوطن بنظرات حالمة، ونحاوره بنجوى هامسة.

وطن تعيش فيه بإخلاص، سيعيش فيك بعمق. لا يمكن أن نشبه علاقة الإنسان بالأوطان إلا كعلاقة الروح بالجسد، ولذا فإن الناس في دنيا الناس متمايزون ما بين أرواح مخلصة وأجساد فانية. وطوبى للخالدين.

* 24.ae