رحلت المترجمة «إيمان» فاليريا بوروخوفا عن عالمنا والإيمان يملأ قلبها وروحها، وتركت أثراً كبيراً في تراث الإسلام، وهو ترجمة القرآن الكريم إلى الروسية بلغة جميلة، قريبة من القارئ، ونجحت في مهمة الترجمة الحقيقية وهي نقل روح النص إلى اللغة التي يترجم إليها. حيث قالت دار أمازون عن هذه الترجمة: «إنها ترجمة شاعرية للقرآن قامت بها فاليريا بوروخوفا بعناية كبيرة، بحيث حافظت على جماله وروعته ورصانته، وبأسلوب قل نظيره أولت خلاله أهمية كبيرة لمعاني القرآن، ومحتواه الثقافي».
دعم زايد
ذهبت إيمان «فاليريا» بنفسها بعد ترجمتها للقرآن إلى الأزهر من أجل الحصول على اعتراف بعملها وتوثيقه، فشكّل شيخ الأزهر آنذاك الدكتور جاد الحق علي جاد الحق لجنة من خمسة أشخاص: ثلاثة عرب وروسيَان مسلمان يعرفون اللغتين بشكل جيد لمراجعة الترجمة. وكانت للأب المؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، اليد البيضاء في دعم هذه الترجمة، إذ قالت فاليريا في حينها: «أرسل المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، رسالة إلى أكاديمية الدراسات الإسلامية في الأزهر، وأراد أن يتأكد من صحة وسلامة الترجمة، وبعد تأكيد الأزهر، بادر الشيخ زايد، طيب الله ثراه، إلى تمويل طباعة 25 ألف نسخة».
كانت ترجمتها متميزة عن الترجمات الأخرى لهذا حازت على اعتراف كامل من كبار المترجمين في روسيا والعالم لأنها ركزت على معاني القرآن في أبعاده الروحية والوجودية والفلسفية. وحرصت في ترجمتها على ألا توحي بتأويلات وتفسيرات لمفهوم الجهاد، مما يؤدي إلى خلق أجواء التطرّف، وتأسيس التربة الخصبة لها، بل هي قدمت المعاني الحقيقية لكل آية من الآيات والأسباب المنطقية لنزولها. وتعتبر ترجمتها للقرآن الكريم الأفضل لأنها لاقت قبولاً مشهوداً لدى المسلمين الروس، وهم ما يقرب من 6 ملايين نسمة. وقالوا إن ترجمتها زادت من معرفة المسلمين الروس بالإسلام.
قصة زواجها
تزوجت فاليريا بوروخوفا من الدكتور محمد سعيد الرُّشد، داعية إسلامي منذ ربع قرن في روسيا وآسيا الوسطى، وهو المترجم المساعد والمشرف العام على ترجمة وطباعة وتوزيع معاني القرآن الكريم والحديث الشريف باللغة الروسية. تعرف على زوجته فاليريا بوروخوفا الدكتورة الأكاديمية وهداها للإسلام وسخر قلمها البارع لخدمة الفكر الإسلامي، واختارت اسم (إيمان) لشدة ايمانها بالاسلام. وعاشت بين دمشق وريفها أكثر من 10 سنوات مع زوجها، وقد استفادت كثيراً من هذه السنوات التي وصفتها بـ«أجمل سنوات حياتي» حيث تعمق فهمها للغة العربية، وترسخت معرفتها بالقرآن وعلومه نظراً لوجود مكتبة والد زوجها -الشيخ سعيد وهو عالم من علماء القلمون- الزاخرة بتفاسير القرآن، والتي أفادتها كثيراً في ترجمتها المتميزة.
اعتناق الإسلام
ولدت فاليريا بوروخوفا مسيحية وكانت أمها وأبيها ينحدران من أسرة روسية معروفة قريبة من القيصر، ومعظمهم هاجروا بعد الثورة من اضطهاد ستالين. قرأت فاليريا بوروخوفا القرآن مع تفسيراته المتعددة، لتجد الإيمان في الإسلام، وكما تقول: «لدي احساس بأنني كنت مسلمة طوال حياتي. ولم أعرف الإسلام إلا عندما قرأت القرآن الذي أجاب على العديد من تساؤلاتي في الحياة».
وقد أعربت مراراً عن دهشتها من وجود 106 ترجمات للقرآن من العربية إلى الإنجليزية، بينما لم يكن في اللغة الروسية سوى ثماني ترجمات. وكان هدفها هو تقديم ترجمة مقروءة من قبل الناس. أما انبهارها بالقرآن الكريم فعائد إلى أن النص الكريم لم يتغيّر عبر أربعة عشر قرناً. لذلك، لم تترجم القرآن ترجمة حرفية بل ركزت على المعاني العميقة. وعابت على ترجمة كراشكوفسكي ذائعة الصيت أنها ترجمة حرفية. لهذا السبب أطلقت على عملها «ترجمة المعاني»، «والجمال الإلهي لآيات القرآن» و«الموسيقى السماوية». واستطاعت المترجمة أن ترد على المفاهيم الخاطئة التي شاعت عن الإسلام بسبب أنظمة المدارس والتعليم آنذاك. ومن أجل ذلك قامت بالسفر إلى منطقة فولغا وساراتوف وقازان وأوليانوفسك، وهي معروفة باعتناق الإسلام، وخاصة بين صفوف الشباب. لقد عملت على نشر الإسلام ومعانيه الحنيفة خاصة بعد موجات الانحلال التي سادت المجتمعات الآسيوية. وأرادت بشكل من الأشكال أن تعيد البريق للقيم الأخلاقية من خلال الإسلام.
وفي نظرها أن الترجمة لا يمكن أن تُسمى ترجمة إلا إذا تم تدقيقها من شخص أعلى من المترجم. وقد تم ترشيح ترجمتها للقرآن لجائزة أفضل كتاب لعام 1998. وحسب اعتراف معظم المترجمين والمستشرقين أن المترجمة فاليريا بوروخوفا لها الدور الأكبر، لأنها صاغت الترجمة بأسلوبها الأدبي البليغ، وهذا ما جعل ترجمتها تحقق نجاحاً كبيراً في روسيا، وخاصة أنها أجادت في نقل الإعجاز العلمي في القرآن. وجاءت ترجمتها دقيقة لأنها تعرف الإنجيل ومفرداته، من أجل مقارنة الترجمة وعدم الوقوع في سوء الفهم. وكانت تؤمن أن ترجمة القرآن الكريم لا يجب أن تعتمد على معرفة اللغة فقط بل بيئة هذه اللغة، لذلك عاشت في سوريا لتكون قريبة من روح اللغة، مما جعلها تنجو من مزالق الترجمة الحرفية للقرآن.
ضد الإرهاب
عملت إيمان «فاليريا» بشكل دؤوب، وتخرجت من معهد اللغات الأجنبية، وكلية الفلسفة بجامعة موسكو. وأصبحت عضواً في الأكاديمية الروسية للعلوم الطبيعية، ثم درست في جامعة القاهرة، وهي عضو اتحاد الكتاب الروس، عضو أكاديمية العلوم الإنسانية. كما أصبحت عضواً كاملاً في الأكاديمية الدولية للأمم المتحدة للمعلوماتية، وكذلك في الأكاديمية الروسية للعلوم الطبيعية وحصلت على وسام الاستحقاق فيها.
وكان لها مع زوجها الدكتور الرشد حضور بارز تركز على إلقاء المحاضرات في المراكز الثقافية والنوادي في معظم المدن الروسية ودول آسيا الوسطى وتوزيع القرآن بالروسية.كما حاربت «الأصولية الإسلاموية» و«التطرف» المنسوب إلى الإسلام زوراً، والمرتبط بالإرهاب. ودافعت عن الإسلام باعتباره دعوة للسلام وليس للقتل. كما حاربت الصورة النمطية للإسلام، وخاصة في ما يتعلق بالمرأة وحقوقها، وسعت إلى إيضاح جوهر الإسلام الحقيقي، وكان دحض سوء الفهم للإسلام من أوليات اهتماماتها.
الاتحاد