عائشة سلطان

ليس جميعهم بالتأكيد لكن عدداً لا بأس به من الحكام والأنظمة الديكتاتورية التي لم تهزها عصا شباب الثورات لازالوا مقتنعين بأن الجماهير يعيشون في غرف منعزلة بعضهم عن بعض، وهم عديمو الخبرات والثقافة، لا يتفاعلون مع أحد أو أي شيء، يجلسون في منعزلاتهم هذه بانتظار أخبار الحزب الأوحد التي تبثها أجهزة إعلامه المسيرة وفق نظريات وضعها مفكرون ومنظرون عاشوا وماتوا في العشرينيات من القرن الماضي.
إحدى أبرز تلك النظريات التي أحيلت للمتاحف نظرية الرصاصة السحرية، فالرسالة الإعلامية ( الرأي – الخبر – المعلومة …) حسب هذه النظرية تصل إلى كل فرد في المجتمع بشكل مستقل وهو منعزل عن الآخرين دون تفاعل معهم أي أن استقبال الرسالة عبارة عن تجربة فردية وليست جماعية !! المؤمنون بذلك حتى اليوم يعيشون في عزلة الجنرال الذي لا يجد من يكاتبه كما في رواية جارسيا ماركيز، وهم بالتأكيد لم يسمعوا أن الناس -أغلب الناس – تتعامل مع إعلام آخر غير إعلامهم الذي لا يشاهده سواهم ، وهذا ما أظهرته خطابات كثير من الديكتاتوريين في الفترة الماضية.
في الإعلام التقليدي هناك ثلاثة أعمدة رئيسية تقوم عليها: الرسالة أو المحتوى، المرسل أو صانع الرسالة أو القائم بالاتصال، المستقبل أو الجمهور، وعلى هذه قام علم الاتصال ونظرياته ومدارسه و ثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلوماتية. ما هو مؤكد اليوم أن المتلقي ليس ضعيفاً ولا سلبياً في العملية الاتصالية كما تنص عليه نظريات الحرب العالمية، وقد تأكد بشكل لا يقبل الجدل أن صانع أو مرسل الرسالة الإعلامية ليس مسيطراً كما كان وأن هناك من نازعه سلطاته. لقد سلب الإعلام الجديد هذه السلطات وخلخل هذه القناعات واجبر المنظرين على أن يجلسوا إلى مكاتبهم وحواسيبهم ليعيدوا صياغة مشهد إعلامي آخر وفق مناظير مغايرة أسسها احترام عقلية الجمهور وتقدير قوته وقدراته على تشويش الرسالة التي تصل إليه بتفكيكها ورفضها إن خالفت سيل المعلومات والقناعات لديه.
ليس من المقبول أن يتحدث الرؤساء والمسؤولون وحتى بعض المديرين وصناع بعض السياسات الجزئية إلى الناس على أنهم أشخاص أغبياء عليهم تصديق كل ما يقال لسببين من وجهة نظر هؤلاء:أولاً لأن المتحدث رجل سلطة يجب أن يصدق وثانيا لأن هذا ما جرى عليه العرف الأبدي منذ “جوبلز” صاحب مقولة “أكذب، أكذب، فسيصدقك الناس في النهاية “ !!
اليوم يتبادل الناس سيلاً عارماً من المعلومات عبر الإنترنت والبريد الإلكتروني ومواقع التواصل الاجتماعي، وهم ميالون بطبعهم لعدم تصديق الرواية الرسمية ما لم تكن مدججة بأساليب إقناعية مبهرة، كما أن هناك بعض الأبحاث التي تؤكد أن الناس صارت أكثر مناعة وأن هذه المناعة تتيح لهم في ظروف كثيرة الإعراض عن الرسالة الإعلامية الأصلية هذا إن لم يصبحوا أعداء لها أحيانا !
أصبح محتما على الذين يخاطبون الناس عبر الإعلام التقليدي أن يعوا أن نسبة مشاهدتهم وتصديقهم تعلو وتنخفض بمقدار شفافيتهم واحترامهم لمعلومات وإمكانات الجمهور في الوصول للمعلومة وأن هناك إعلاماً آخر بدأ يسود ويسيطر ويصنع جماهير منحازة له بالقدر الذي ينحاز فيه الرسميون والإعلام التقليدي ضد منظومة حريات الإعلام والتعبير. إعلام التواصل الجديد ليس خيراً كله وليس شراً محضاً ، لكنه على الأقل كسر ثقافة الصمت في مجتمعاتنا التقليدية، وحول المستقبل إلى مستقبل ومرسل للمحتوى الإعلامي، كما أنه فتح المجال واسعاً لجدالات وحوارات قائمة على الندية والحرية وتقدير الذات، وعدم تكريس مشهد الاستسلام والاستلاب إزاء كل ما ينشر ويعرض.

– عن الاتحاد