حارب الظاهري

سواء كان الأمر مقصوداً وممنهجاً أو جاء من قبيل المصادفة، فإن إدارات شركات البترول الأجنبية، التي جاءت إلى المنطقة في وقت مبكر، قدمت خدمة حقيقية للمجتمع الإماراتي، حين لم تكتفِ بالعمل المعتاد من تنقيب وتسويق نفطي، بل تنبهت لتوثيق صورة الحياة في تلك الأيام البعيدة. حيث بلورت من خلال عدسات مصوريها والمهتمين بالبيئة والطبيعة وحياة الصحراء من العاملين فيها، ملامح ذلك الزمن، بحيث يمكن القول، إن صورها تلك غدت وثائق الذاكرة الإماراتية، التي تعرف الأجيال الجديدة بما كان عليه الأجداد، من دون أن يعني ذلك أنها المصدر الوحيد لقراءة مظاهر الحياة الاجتماعية في الماضي القريب. كما جسدت مخرجات الحياة المتشكلة عبر سنوات ما قبل النفط، وعبر أجيال بعينها انفطرت على البداوة الجميلة. هذه الحزمة من الصور والكتابات التي تركت من قبل الأفراد الأجانب والشركات النفطية، شكلت بالإضافة إلى جهود المصورين الأوائل والرحالة، مكوناً ثقافياً يبهر الأجيال، ويسطر دلالات على حياة التحول من بدائية البيوت والمباني وصور الأسواق والطرقات، وكذلك الوجوه والحياة التي كانت قاسية جداً على ابن الصحراء.

لقد عكس هذا السجل الثقافي سائر ملامح الحياة اليومية في إمارات ما قبل النفط، كما أنه قدم الدليل على طبيعة الحياة الدقيقة التي سطرت في وصفها المقالات والكتب والرحلات، فضلاً على مجلات وكتيبات ودوريات قديمة وحديثة، وإلى الآن ما تزال بمثابة إضاءات دالة على كثير من القيم الثقافية والتراثية، ولغة التحول من جذور الحياة البسيطة والمباني المعدودة (وليس العديدة) والمساحات الفارغة، التي كانت تنبت على حوافها شوارع عشوائية وبيوت صغيرة متناثرة مطلة على بحر الخليج العربي، والتي كانت تعتمد في حياتها على البحر، فمنه الرزق من صيد الأسماك واللؤلؤ والتجارة.

وربما جنحت عدسات التصوير إلى تصوير الحياة البرية وطقوسها الجميلة المؤثرة على حياة البدو والحضر وسمات الصحراء اللافتة ثقافياً، أو اتجهت إلى الإنسان لتوثق علاقته بالصحراء وممارسة رياضة الصيد والفروسية، وهي رياضات كان الإنسان العربي يستهدفها من أجل العيش الكريم. هذا المزيج الثقافي الذي سجل من قبل الأجانب، وأوردته عدساتهم هو بمثابة توثيق مهم بحاجة إلى عناية خاصة لتأصيل ذاك التفاعل، الذي بنى على اجتهادات ثقافية ذاتية، شكلت نواة ترنو إلى يوم يشعر فيه الإنسان الإماراتي بالحاجة إلى معرفة ماضيه، وقراءة حيثياته الجميلة، وهو ما يجري حالياً، حيث ننقب عن الحياة الماضية بكل تفاصيلها المتمازجة مع الحياة الآنية، فتسعفنا هذه الصور. إلى ذلك، تقدم لنا هذه الصور ما يشي بأن الثقافات الأجنبية كانت مؤثرة في تشكلنا المعرفي والثقافي، ولم تكن مجرد عمالة عابرة خاوية من الروح، بل خطت لنفسها مساراً ثقافياً رغم أنها لا تمتلك اللغة، التي تتحدث بها الأرض، فأثرت بذلك ليس في حقبتها فقط، وإنما في الحقب التالية. لذا، نقول إن لهذه الحقية أهميتها التي تستدعي تسليط الضوء عليها، وبلورة معطياتها من جديد.. ولاشك في أن هذا سيضع أيدينا على إرث ثقافي ما يزال مخبوءاً، ومن شأنه أن يلقي الضوء على كثير من الحقب، ومن المحتمل أن يشعل النقاش الثقافي، ويعرفنا على عدسة سطرت لنا كثيراً من الرؤى، ولم تكن عامل شقاق، بل تآلف وتمازج بيئي وثقافي تنظر إليه الأمم على أنه ثروة تاريخية مهمة. وقد حدثني كثيراً حول هذه الآلية المترجم البريطاني دينيس جونسون في لقاء سابق فرد لي خلاله قصة عمله في دول الخليج العربي آنداك.

– الاتحاد