في لقاء جمعنا في دبي، مؤخراً، مع مجموعة من المثقفين والصحافيين العرب، دار بيننا حديث حول المدن العربية ومدى قدرتها واستيعابها واستعدادها لاستقبال واستضافة الأحداث العالمية الكبرى، السياسية أو الثقافية والاقتصادية والرياضية.
كان الحديث يدور بيننا حول سلبيات وإيجابيات تلك الأحداث والفعاليات على تلك المدن، وأيضاً انعكاسات تلك الأحداث على قاطني المدن المستضيفة، وحول قدرة تلك المدن، ليس فقط من النواحي اللوجستية، ولكن من النواحي الحضارية، من حيث توفر المناخ الحضاري المناسب، بالإضافة بالطبع إلى التسهيلات اللوجستية الأخرى كافة، التي تتطلبها مثل تلك الفعاليات العالمية.
سألت إحدى الزميلات الصحفيات كلاً منا عن المدينة التي أتى منها، ومدى توفر الإمكانات والتسهيلات اللازمة لاستضافة فعاليات في ضخامة إكسبو، أو مباريات كأس العالم، أو المؤتمرات العالمية الكبرى. وعندما جاء دوري كانت إجابتي كالتالي: لقد أتيت من المدينة العربية التي قالت لا.
فنظر الحاضرون لي باستغراب وقالوا: وأين هي تلك المدنية؟ قلت لهم: أنتم فيها، إنها دبي، المدينة التي قالت «لا» مرات عديدة في تاريخها، وللعديد من التحديات الصعبة والقضايا الجدلية التي حيرت العلماء، وبذلك استحقت أن تنال مكانة كبرى، ليس فقط بين المدن العربية، ولكن بين مدن العالم قاطبة، بحيث لا يتم تصنيف مدن العالم المتميزة في شيء، إلا وتأتي دبي في قائمتها. لهذا تُعَد دبي مدينة مثالية لاحتضان أي حدث عالمي كبير، بما توفره من تسهيلات، وبما تميزت به من جو حضاري قل نظيره في العالم.
لقد قالت دبي «لا» لفكرة رفض التعددية والتنوع والتعايش بين البشر المختلفين لوناً ولغة وثقافة وديناً، فأصبحت تضم أجناساً وأعراقاً وأدياناً عديدة ومختلفة، وأصبحت تُعرف بأنها المدينة العالمية الأهم بين مدن العالم، من حيث التنوع والتعايش السلمي بين البشر. وعلى الرغم من هذا التنوع، فإنها لم تشهد في تاريخها حادثة تكسر ذلك التناغم المتميز بين طوائف البشر الذين يعيشون في ربوعها.
لقد احتضنت الجميع، وشعر الكل بالأمن وبالأمان في أحضانها، فما من وافد جديد إلا ويشعر بأنها مدينته، وبأنه جزء منها. لقد قالت دبي «لا» لفكرة محدودية الموارد الاقتصادية، وبساطة البنية التحتية، وقساوة المناخ وحداثة التجربة، وبدأت في الترويج لنفسها سياحياً في فترة مبكرة، لتحتل في زمن قياسي مكانة متميزة على خريطة السياحة العالمية، وذلك قبل أن تعرف مدن أخرى صناعة السياحة ومردودها الكبير. فأصبحت دبي جنة الدنيا ومقصداً للسائحين من أنحاء العالم كافة.
لقد قالت دبي «لا» لفكرة محدودية الأرض وضيق المساحة الجغرافية، فاتجهت إلي البحر تحرثه لتخرج منه نخلاً ولؤلؤاً وجُزراً اصطناعية عملاقة، أصبحت معالم إنسانية بارزة تفتخر بها البشرية جمعاء.
لقد قالت دبي «لا» لفكرة أنه لا توجد مدينة عربية تجمع بين أصالة الماضي بكل تجلياته، وترف المستقبل بكل أنماطه، فظهرت دبي كأنموذج راقٍ بين المدن العربية، يجمع بين النقيضين في صورة جمالية رائعة، يأتي الإنسان في وسطها. لقد قالت دبي «لا» للشعور بالنقص لدى الإنسان العربي بأنه جاء من بيئة جامدة لا تتقبل المتغيرات المجتمعية السريعة، لتثبت للعالم أن التغيير إنما هو صناعة محلية.
لقد قالت دبي «لا» لفكرة أن السلطة والمواطن يعيشون على طرفي نقيض، فأثبتت أن الدولة إنما تعمل لأجل رفاهية الإنسان، وأن الإنسان يعمل باتساق مع الدولة، لذا ساد أمن وأمان ميز دبي عن غيرها من مدن العالم.
لقد قالت دبي «لا» لفكرة أنه لا توجد مدينة عربية يمكن أن تقارَن بمدن العالم المتحضر، من النواحي الأمنية ومن حيث توفر التسهيلات اللوجتسية الفاخرة، وتوفر الإمكانات السياحية التي تضاهي مدن العالم الكبرى. فجاءت بنية دبي التحتية المتطورة، لترد على أولئك المشككين في قدرة أي من المدن العربية في استضافة أحداث عالمية كبرى.
لقد قالت دبي لاءات عديدة، وفي مواقف كثيرة، لتثبت للعالم أنها ليست كغيرها، وأنها متجددة على الدوام. فلاءات دبي مختلفة، لأنها لاءات ذات دلالات إيجابية. فالتاريخ العربي مليء باللاءات، ولكنها لاءات ذات مردودات سلبية، قادت الأمة العربية إلي وضع لا ترغب فيه، وضع حرمها الكثير من الفرص، ووضعها أمام تحديات كبرى لم تنجح حتى الآن في تذليل معظمها، وضع ربما قادها في طريق تخلفت فيه عن ركب الحضارة العالمية سريعة التطور.
ولكن لاءات دبي قادتها إلي طريق مختلف، طريق التحدي وخلْق واقع جميل مغاير لنظيراتها. فلاءات دبي عبارة عن دانات تزين معصم هذه المدينة الحالمة على ضفاف الخور. إن لاءات دبي هي عبارة عن قرارات لم يتخذها إنسان هذه المنطقة فحسب، بل أصر عليها حينما حاول الآخرون ثنيه عنها، واعتبارها أحلاماً كبيرة ومستحيلة لا يستطيع تحقيقها، أو حتى الحلم بها، ولكن دبي قالت حينها لاءاتها الكبرى، ألا وهي الإصرار على تلك اللاءات.
لهذا كله تستحق دبي وبكل جدارة، أن تنال شرف استضافة الأحداث الكبرى والفعاليات العالمية الضخمة، لأنها تملك، وبكل فخر، ما لا يملكه غيرها. إن توفر تلك الإمكانات في دبي لم يأت من فراغ، بل من خلال عمل دؤوب وخطط مدروسة بعناية، وعين ساهرة لا تنام ليلاً أو نهاراً، وعقل منظم منفتح على الآخرين، وبرامج حضارية مدروسة عرَّفت الآخر بحضارة هذه المنطقة.
لقد درست دبي مشروعاتها بعناية حتى لا تتضارب تلك المشروعات مع أحلام قاطنيها وتطلعاتهم، وحتى لا تنعكس سلباً على طبيعة المجتمع الحضرية.. لهذا استحقت دبي كل هذه المكانة.
– عن البيان