ياسر حارب
كُنتُ أقود سيارتي بسرعة وأنزلق بين السيارات الأخرى حتى أصل إلى وجهتي، وفي ظل ذلك السباق اليومي كنتُ أتنقل بين الإذاعات دون هوادة، وأُقلّب المقاطع الموسيقية قبل انتهائها. وعندما أجلسُ لقراءة صحيفة ما فإنني أرميها بعد قراءة العناوين، أما المقالات فلم أكن أستطيع إكمالها حتى النهاية.
وكنتُ أرفضُ طلب مُقبلات في المطاعم، «وأدخل مباشرة إلى الوجبة الرئيسية، وقبل أن ألتهم لُقمة كانت الأخرى جاهزة في يدي. وكنتُ أشربُ القهوة والمشروبات الغازية بشراهة، وكنتُ غير قادرٍ على الاستماع إلى قصة أحدهم حتى يُنهيها. أما الكُتب، فلم أكن قادراً على قراءة كتاب حتى الصفحة الأخيرة.
وفي إحدى الاجتماعات التي حضرتُها عندما كنتُ موظفاً حكومياً بدأ مُديري بالترحيب بالوفد الزائر من فرنسا، وعندما أخذ استراحة لثوانٍ قفزتُ في وسط الحديث وبدأتُ أحدثهم عن الخدمات التي تقدمها مؤسستنا؛ فلقد كدتُ أنفجر من المجاملات و«حركات كسر الجليد.
كما يسمونها في علم الإدارة، وكنتُ أعتقدُ بأن اجتماعات العمل لا بد أن تبدأ دون أي مجاملات أو مضيعة للوقت. وبعد أن انتهينا طلبني مديري في مكتبه وقال: «عندما تبدأ اجتماعاً دون أن تُرحب بالضيف الزائر فأنتَ تقول له بأن أمره لا يهمك، وكل ما تريده منه هو المال».
ولقد كنتُ في زيارة إلى شركة إيطالية قبل مدة، وفي خضم حديثي مع مدير الشركة حول تنسيق موعد زيارتي كنتُ أستعرض له جدول القطارات المتجهة إلى مدينته لكي أصل إليه مُبكراً وأستغل أطول وقت ممكن للاجتماعات، فقاطعني ضاحكاً: «لا تقلق يا ياسر، تعال وقتما شئت، فنحنُ طليان ولسنا ألمان.. الحياة يمكنها أن تنتظر.. سأكون في انتظارك».
أغلقتُ السماعة وتذكرتُ مديري السابق، وتذكرت قيادتي للسيارة، وتذكرتُ جدول مواعيدي المزدحم، وتذكرت ندمي كلما وجدتُ به وقت فراغ يتجاوز الساعة.. تذكرتُ كل ذلك وأنا أشاهد المراكب وهي تبحر بهدوء في القناة الكبيرة بمدينة البندقية. نزلتُ أمشي بين المحلات الصغيرة التي تبيع الزجاج والأوراق القديمة والأقلام الخشبية، دخلتُ لأشتري بعض الأوراق والأقلام.
وعندما كانت العجوز تلف الهدايا التي اشتريتها كانت تنظر إلي وتبتسم وتحكي قصصاً عن تاريخ المدينة، وكنتُ مستمتعاً بهدوئها وبانسجامها في الحديث وكأنها طفلة صغيرة ما زالت في مقتبل العمر. خرجتُ من المحل وجلستُ في مقهى صغير محشور في زقاق ضيّق وأخرجتُ كتاباً لجبران، وبينما أنا أتصفحه وقعتُ على مقاله المعنون بـ (أنتَ سابقُ نفسك) فاستوقفتني هذه الجملة:
«منذ البدء ونحن سابقو أنفسنا، وسنبقى سابقيها إلى الأبد. وليس ما حشدنا ونحشدُ في حياتنا سوى بذور نُعدّها لحقول لم تُفلَح بعد. نحن الحقول ونحن الزارعون… أنتَ سابق نفسك يا صاح، وما الأبراج التي أقمتَها في حياتك سوى أساس لذاتك الجبّارة.. وقريباً ستصير هذه الذات أساساً لغيرك».
لا أستطيع أن أتذكر الآن تفاصيل سيارتي، ولا أغراضي الجميلة، ولا المقالات التي قرأتها، ولا الكتبُ التي لم أستطع إنهاءها، ولا حتى إنجازاتي في الوظائف التي تنقلتُ بينها طوال عشر سنوات، بل إنني لا أذكرُ أسماء كثير من الزملاء والزميلات الذين تعلمتُ منهم كثيراً.. وكأن ذكرياتي بدأت في محل الهدايا ذاك، وكأن أول صوتٍ سمعته في حياتي كان صوت تلك العجوز .
وهي تقول لي مسترسلة «إن الفنّ يحتاج إلى وقتٍ وهدوء وصمت. لا أتذكر الآن المدن الجميلة التي زرتها في حياتي، ولا الجبال التي شاهدتُ من فوقها أجمل مناظر العالم. لا أذكر شيئاً لأنني لم أعِش شيئاً، فلقدُ كنتُ مُسرعاً حتى أصل قبل الآخرين، والآن أدركتُ بأنه ليس هنالك آخرون.. لا أحد غيري في هذا السباق، فلم أسبق أحداً ولم يسبقني أحد.
الحياة ليست منافسة أو صراعاً كما قرأنا في كتب الإدارة والقيادة، بل وقتاً لا نملك تحديده، ولكننا نملك الاستمتاع به. يقول جبران: «أنتَ سابقُ نفسك أيا الغريب العابر بباب حديقتي، وأنا مثلك سابق نفسي، حتى ولو كنتُ جالساً في ظلال أشجاري وأبدو ساكناً. كتبتُ في ذلك المقهى رسالة بعثتها إلى أحدهم :
“أيها العابر المُسرع، لا تنس أن تقف على أبواب الحدائق وتُسلّمَ على أهلها، ولا تنس أن الشيء الوحيد الذي يستحق عبورك السريع هذا، هو الوصول إلى من تُحب قبل فوات الأوان.. أيها العابر، لكل عبورٍ عودة، إلا عبور نفسك.
– عن البيان