د خالد الخاجة
هناك كثير من التحديات التي تواجهنا ونحن نربي أبناءنا وبناتنا. هذه التحديات تؤرق كل أب وأم حتى يكونوا نبتاً طيباً، صالحين في أنفسهم، قادرين على نفع من حولهم. كما أننا نسعى بلهفة للحفاظ على صحتهم من كل أذى، وبنائهم البناء النفسي الذي يحميهم من أي انحراف أو ميل عن قيمهم وهويتهم، وخاصة في زمن تتدافع فيه القيم من كل حدب وصوب، عبر وسائط صارت في متناولهم ليلاً ونهاراً، نرقبهم فيها أحياناً، ونتركهم في أغلبها.
لذا فقد بات فرض عين على المؤسسات المعنية بتربية الأطفال والنشء كافة، البدء بغرس القيم الفاضلة في نفوسهم، التي إن صحت صح بها سلوكهم، وإن فسدت فسد، وخاصة بعد أن اقتحم الكثير من القيم المرفوضة والمستهجنة أسوار بعض مدارسنا، مثل العنف وغيره، ولن يتم ذلك إلا عبر تقديم القدوة والنموذج، وممارسة الأنشطة التي تدعم ذلك، وتقويتها لتصبح جزءًا أصيلًا من منظومتهم السلوكية، وهذه هي الرسالة الأولى بالرعاية من كل محب لهذا الوطن، حريص على مستقبله.
كما أن القيم هي التي تتمايز بها المجتمعات، وتحفظ لها هويتها وتقع في القلب من ثقافتها، ومن هنا فإن الحفاظ على هوية المجتمع يمثل الحفاظ على بقائه، ورسم مستقبله، وجعل أبنائه يتسقون مع أنفسهم حين يعبّر ما حولهم عما يعتقدونه، وإلا نشأ ما يمكن أن نسميه “الصراع القيمي” الذي يؤثر في استقرار المجتمع ذاته.
ولأن المدرسة هي أحد أهم محاضن تكوين شخصية الطفل أو الطفلة، فالتعليم في الصغر كالنقش على الحجر، فقد هالني ما قامت به إحدى المدارس الخاصة في الدولة من سلوك يجافي كل معايير التربية القويمة، وينافي الذوق والفطرة السليمة التي خلق الناس عليها، ففي اليوم المفتوح – وهو يوم مخصص للترفيه – وخلال إقامة بعض العروض، قامت المدرسة بتنظيم فقرات، يقوم الأولاد في إحداها بلبس ملابس البنات من فساتين، ولا مانع من بعض المساحيق! في الوقت الذي تقوم البنات بلبس ملابس الأولاد، ولا مانع من وضع لحية وشارب إمعاناً في حبكة الشكل!
ولا أدري ما الحكمة من مثل هذه السلوكيات؟! وما شعور أي أب وهو يرى ابنه الذي يعده ليكون رجلًا، وقد لبس ثياب أنثى، ووضع مساحيق على وجهه، وقام بأعمال تختص بها المرأة، وتصرف مثل تصرفاتها وسلك مسلكها؟! وما شعور الأم التي تربي ابنتها على أن الحياء من شيم الكريمات، وليس من الحياء تقليد الرجال في ملبسهم ومسلكهم {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه} (الروم: 30).
إننا عندما نودِع أولادنا المدرسة، فإننا نودعهم – أولا – أمانة ينبغي الحفاظ عليها، لنستردها منتصف كل يوم، وهم أكثر رشداً، وأكبر وعياً، وأنبه عقلًا، وأكثر علماً بقيم المجتمع الذي يعيشون على أرضه، فضلاً عن كونها أمانة، تتمثّل في تكوين جيل يتحمل المسؤولية في بناء وطنه والمشاركة في مسيرة تنميته، ولن يكون ذلك إلا في إطار سياج من القيم النابعة من أرضه والضاربة بجذورها في الأعماق، ولن يتحقق ذلك وبعض المدارس تقوم بمسخ شخصيات أبنائنا وتضييع ملامحها حتى يكون التخبط هو السبيل.
ثم أين رقابة المؤسسات المعنية على مثل هذه التصرفات الشائنة؟ ألم تأخذ هذه المدارس ترخيصاً من الدولة بالعمل تحت مظلتها، وبإشراف من وزارتها؛ لتصون قيم المجتمع وترعى عاداته وتقاليده؟ كما أن أي نشاط تقوم به المدرسة – صغر أو كبر – لا بد أن يكون من ورائه هدف تربوي؛ مثل الحفاظ على بيئتهم، والاعتماد على الذات، ولا مانع من القيام بتزيينها بأنفسهم، أو المشاركة في العروض الفنية أو المسابقات العلمية، أو اكتشاف المواهب في الألعاب الرياضية أو الموسيقا وغيرها. وهنا أتساءل: ما الهدف التربوي من وراء لبس الأولاد ملابس البنات وتأدية أعمالهن، وقيام البنات بالدور نفسه؟
لا أعتقد بأن وراء ذلك أية قيمة تربوية، بل إنني أذهب أبعد من ذلك إلى القول إنها فكرة مريبة، وراءها قصد سيئ، وهو أن ينشأ جيل لا يعرف لشخصيته ملامح تميزه، ولأن من شب على شيء شاب عليه، فقد يعتقد الولد أو البنت بأنه لا حرج في ما تم، وقد يستيقظ الأب ذات يوم فيجد ابنه واقفاً أمام المرآة يضع المساحيق على وجهه! أو يجد ابنته وقد صارت لا حياء لديها وصارت مسخاً! لم لا وقد تعلما في مدرستهما – وهي المؤسسة التربوية التي نعهد إليها بتأديبهما – أنه لا ضير في ذلك!
وإذا كانت المدرسة قد أقدمت على ذلك السلوك المريب في العلن دون خجل أو حياء أو مراعاة لقيم المجتمع، أو تحسب لمساءلة من وزارة أو استنكار من أولياء الأمور، فما الحال في الفصول الدراسية المغلقة؟ وماذا يقال لهم داخلها؟ أليس ما يدرس في قاعات الدرس يمارس وينعكس خارجه؟ ما يدفعني لمزيد من الشك والريبة.
إنني على يقين أن دولتنا تولي التعليم بصفة عامة – سواء في مراحله الأولى أو التعليم العالي – عناية كبيرة، وتعده القيادة الرشيدة السبيل الأوحد للتنمية والتقدم، ولكن: متى يبلغ البنيان تمامه إذا كنت تبني وغيرك يهدم؟
إن طفل اليوم هو قائد الغد، وإذا أردت معرفة مستقبل أي أمة فتفحّص ما يتعلمه أطفالها والقيم التي ينشأون على أساسها، فالسلوك الإنساني في عمومه نابع من القيم المحددة لمساراته واتجاهاته في مواقف الحياة. والنجباء في حياتهم هم من لهم قيم أهلتهم لذلك، والتي تختلف بطبيعتها عن غيرهم من العاجزين والفاشلين.
لذا فإنني أدعو إلى التصدي لمثل هذه المسالك المخالفة لأخلاقنا والتي لا نرضى أن يربى أولادنا عليها، وهنا لا أدعو وزارة التربية والتعليم – وهي الجهة المعنية بهذا – للوقوف بحزم ضد كل من تسول له نفسه تخريب أغلى ما في الوطن وهو ثروته البشرية، قبل أن تستفحل وتتكرر مثل هذه الظواهر، بل أدعو كذلك أولياء الأمور – وهم أصحاب الهم – ألا يتركوا أولادهم دون متابعة لما يتم تحصيله من علوم، وتلقينه من قيم من خلال إقامة حوار معهم، والتواصل مع إدارة المدرسة عند حدوث أي تعد على قيمنا، حتى لا تغتال براءة أطفالنا.
– عن البيان