د خالد الخاجة

ما زال هاجس التنشئة الاجتماعية ماثلاً أمام المعنيين بمستقبل وطننا والحفاظ على مكتسباته ومكانته وثروته الحقيقية، وهم الأجيال الشابة المعنية بحمل الراية لاستكمال مسيرة النصر الظافرة، في ظل ظروف محيطة لم يعد فيها للمتكاسلين مكان فوق الأرض.

ولأن الأمر مهم على نحو كبير، ولأن التحديات كبيرة في ظل عالم تحطمت جدرانه وانفتحت سماواته، وبات الحديث عن قدرة طرف واحد بعينه على التطبيع الاجتماعي أو التنشئة الاجتماعية أمرا مبالغا فيه، حيث تعددت وتنوعت المصادر المؤثرة في عملية التنشئة والفصل بين هذه العوامل شديد الصعوبة، ولكن الأمر المتفق عليه بين الغالبية، هو أن وسائل الإعلام تلعب دورا رئيسا في عملية التنشئة، فما إن يولد الطفل حتى ترى عيناه النور الساقط من شاشاته، بل تركه أبواه أمام تلك الشاشات دون تمحيص أو تدقيق.

ولأن الأمر كذلك فقد استغرقنا الوقت الكثير في توجيه سهام النقد إلى المضمون المقدم مرات ومرات، ولا بأس في ذلك للتصحيح، ما دام نبل القصد ومصلحة الوطن هما الغاية والمقصد، إلا أنه من الضروري تقديم معالم محددة توضح سبل القيام بدور فاعل في عملية التنشئة الاجتماعية التي تحفظ لشبابنا شخصيته ولوطننا مستقبله في أغلى ثرواته وهم أبناؤه.

بداية، علينا أن نتفق ونحن ننتقد ما تقدمه وسائل الإعلام، على أن هناك إيجابيات كثيرة تلعبها كان من الصعوبة بمكان أن تحدث دونها، فهي التي جعلتنا نرى قادتنا ونتصل بهم سمعا وبصرا، وجعلت قراراتهم تأتي متوافقة مع نبض الشعب، كما أنها حفظت لنا التراث عبر نقله من جيل إلى جيل بما يحمله، وتعميقه في نفوس الشباب عبر تقديمه بشكل محبب، في ظل منافسه لا ترحم من مصادر متعددة للذهاب بأبنائنا بعيدا عن كل ما يربطهم بهويتهم، وهو أخطر ما يهدد مستقبل الأوطان.

إن التنشئة الاجتماعية السليمة تتطلب من وسائل الإعلام – بكافة أشكالها مقروءة ومسموعة ومرئية – أن تكون مصدرا من مصادر التحصيل العلمي للشباب والناشئة وكافة الشرائح، عبر تقديم المعلومة العلمية المبسطة، دون الإغراق في المصطلحات العلمية المعقدة، وأن تتم الاستفادة من إمكانياتها من حيث الصورة واللون، بحيث تشيع حالة من حب المعرفة، وأن يتكون ما يمكن تسميته المجتمع العلمي، كما عليها أن تلعب دورا أساسيا في تنمية التفكير الإبداعي لدى الأطفال، عبر البرامج العلمية المبسطة.

إنني أتعجب كثيرا حين يحتل الأطفال العرب المراكز الأولى في حساب مقاييس الذكاء في المسابقات العالمية، ثم يغيب هذا الوهج الذهني والألمعية عن أثر فعلي في حياتنا من أفكار واختراعات تغير وجه حياتنا، دون أن نعتمد على غيرنا.. ماذا يحدث وأين الخلل على وجه التحديد؟

إن البداية الحقيقية لإشاعة جو من حب المعرفة والتحصيل العلمي، تأتي من وسائل الإعلام، ولن يتم ذلك دون أن يشعر كل فرد في المجتمع بأن مكانته الحقيقية لن تكون إلا بمقدار ما لديه من معرفة، وأن العلم هو السبيل لتحقيق آماله في حياته، وهو ما أكدته “معجزة كوريا الجنوبية”، حين كشفت إحدى حلقات برنامج “خواطر” لصاحبه المبدع أحمد الشقيري، سر إقبال الطفل الكوري على تحصيل العلم في الفصل المدرسي نهارا، وفي المراكز العلمية حتى الواحدة من صباح اليوم التالي، وتتحرك الحافلات لنقلهم ذهابا وإيابا، للدرجة التي ناشدت فيها الحكومة أبناءها بالاكتفاء عند الساعة العاشرة والنصف مساء.

ولم يكن ذلك ليتم لولا وسائل إعلام وطنية تعلن عن المكتبات العامة الموجودة في محطات القطار، ومراكز التسوق، وحتى الشوارع والأماكن العامة، وهو ما حاول البرنامج بمبادرات فردية، أن يطبقه مستعيناً بعناصر شابة في بعض الدول العربية.

إن هذه النوعية من البرامج، التي على شاكلة “خواطر” – على الرغم من نقدي السابق له – تمثل كيف يكون دور وسائل الإعلام في الحث على كل ما هو متميز لدى غيرنا ونحتاج إليه، ولا بأس في ذلك، فالحضارات الإنسانية في مجملها قامت على التلاقح الرأسي بين القديم والجديد والأفقي، بين المجتمعات بعضها البعض.

كما أن التنشئة الاجتماعية السليمة، تتطلب من وسائل الإعلام أن تكون مدرسة لإذكاء وتنمية الشعور الوطني، وغرس حبه في النفس، والاعتزاز بتاريخه ومسيرته الحضارية بين الأمل والرجاء، لأنها الدافع الحقيقي للتضحية والاعتزاز بالهوية الوطنية، وغرس القيم الاجتماعية النبيلة والحفاظ عليها، ويتأتى ذلك عن طريق بث البرامج والأفلام الوثائقية والمسلسلات التي تبين تاريخ الوطن، وما يضمه بين جنباته من معالم تاريخية ودينية.

وهنا فإنني أؤكد أهمية إنتاج فيلم سينمائي ضخم يخلد مسيرة الاتحاد – التي خلدها الواقع وتجاهلتها السينما – لتعرف الأجيال الجديدة الصعاب التي كانت تنوء بحملها الجبال، والتي كانت تحول دون تحقيقه، إلا أن عزيمة الرجال كانت أقوى، وهي دائماً كذلك حين تصدق، فتحقق لنا ما نحن فيه الآن من خير، يستوجب علينا تخليد مسيرة من أسس وبنى ومن حافظ ونمى.

إن التنشئة الاجتماعية السليمة تتطلب من وسائل الإعلام أن تقوم بعملية الضبط الاجتماعي، ونبذ السلوكيات الضارة بالمجتمع، وتغليب المصلحة العامة دون الخاصة، والذي يعني الحفاظ على متانة النسيج المجتمعي من أية خروقات قد تحيد به عن الجادة.

كما أن التنشئة الاجتماعية المثلى لوسائل الإعلام ذاتها، أن تكون منبرا لتداول الأفكار بحرية دون خوف أو وجل، فالفكرة الخاطئة تصححها وتقومها فكرة أخرى، كما تكون الساحة للكشف عن المواهب والإبداعات وإطلاقها حتى يشعر الفرد بذاته، وأن هناك من يستمع إليه ويهتم به، دون البحث عن مجتمعات بعيدة على الضفة الأخرى من النهر تفجر طاقاته وتستفيد منها ويغترب بعيداً عن وطنه. وما تكشفه التقارير الدولية عن الطاقات العربية المبدعة المهاجرة، يؤكد أننا أمة قادرة وغنية، لكن نحتاج فقط إلى ترتيب أولوياتنا.

إن التنشئة الاجتماعية السليمة تتطلب من وسائل إعلامنا أن تمعن النظر في الرسالة المقدمة، لتتفق مع المنظومة القيمية المجتمعية بعيداً عن التقليد والتغريب، حتى لا نُخَرِج جيلاً مشوهاً لا يعرف من هو ولا ماذا يريد.. ولا شك أن خواطر “الشقيري” هي نموذج مضيء يجب الاحتذاء به

– عن البيان