د خالد الخاجة
تجاوزت تجربتنا الاتحادية الأربعين عاما، وهي لم تزل المعين الذي ننهل من فيضه الدروس والعبر، التي تحكي مسيرة الكفاح وقصة النجاح، التي اختص الله لها رجالا أخلصوا لشعوبهم بعيدا عن المجد الشخصي، فاجتمعت إرادتهم لتكون إرادة واحدة، هي إرادة الاتحاد، وتناسوا أمجادهم الشخصية، فذابت ذواتهم واجتمعت قلوبهم على قلب رجل واحد، والتأمت نفوسهم وتوافق هواهم مع واقع يتطلب منهم اتخاذ قرارات مصيرية تغير وجه الأرض.
كيف لا والاتحاد وهب لنا دولة لها مكان ومكانة بين الأمم؟ لذا ففي تقديري أن قصة الاتحاد هي مدرسة الحكمة التي نستلهم منها العبرة ونتعلم منها جسارة الرجال وكيف تكون القيادة، لنقصها على أبنائنا، سيرة رجال أحبوا شعبهم فبادلهم حبا بحب، وأخلصوا لوطنهم فوهب لهم قيادة حقيقية، وخلد ذكراهم بحروف من نور في مسيرته الظافرة، لذا فإن النظر بإمعان في قصة الاتحاد هناك ملامح أساسية لا يجب أن نمر عليها مرور الكرام.
أولا: أن من الحكم الخالدة التي يجب أن ننظر إليها في اتحاد دولتنا، أنه قام في النفوس قبل أن يتم على الأرض، بما يعني أنه لم يفرض بمنطق القوة ولكن بقوة المنطق التي أدركها المؤسسون، أي أنهم أقاموا دولة الاتحاد في نفوسهم ونفوس إخوانهم فكانت على أرضهم، وهذا البناء الذي تم في النفس قبل الأرض، هو الذي أعطى – وسيظل بإذن الله – أسباب الحياة التي سطرت حكمة خالدة. وأرجو أن يسمح لي القارئ العزيز، أن ألخص مفرداتها في هذه الجملة “أقيموا دولة الاتحاد في نفوسكم تكن على أرضكم”، لأن الاتحاد الذي يفتقر إلى قناعة من أبنائه تملأ العقل والقلب وتختلط بالعظم واللحم لا يمكن له أن يعيش طويلا، والشواهد من حولنا كثيرة.
ثانيا: أن اتحاد دولتنا لم يفرض بقرارات فوقية بين حكام الإمارات، ولكن جاء تعبيرا عن رغبة متجذرة في نفوس أبناء الإمارات المتصالحة، وهذا هو سر قوة اتحادنا الذي لم يكن أكثر الناس تفاؤلا يظن أنه سيصمد في ظل تحديات كبيرة يصعب حصرها. إن فشل كل التجارب الاتحادية في عالمنا العربي، كان مرجعه أنها كانت اتحادات بين حكومات ولم تكن بين شعوب، والفارق بينهما كبير؛ لأن الشعب الذي أراد الاتحاد هو الحارس والضامن له، وهو من يحافظ على مكتسباته ويتصدى لكل مغرض يود العبث بمقدراته.
ثالثا: إن من ينظر إلى مسيرة الاتحاد الخالدة يدرك أنها قصة التحول من الحلم إلى الحقيقة، قصة الإرادة التي تستطيع أن ترى طاقة النور في أكثر الطرق ظلمة، وترى أسباب النجاح من بين ركام التراجع، وترى أسباب النهضة من بين أصعب التحيات، وترى مستقبلا زاهرا من بين واقع قاسٍ وشحيح، قصة القيادة التي حلمت فاستطاعت أن تحول حلمها إلى واقع قوي، القيادة التي تمتلك رؤية تؤطرها الحكمة والبذل. هذه المسيرة، التي بدأها خير سلف وسار على دربها خير خلف، تؤكد كل يوم أن ليس هناك شيء مستحيل، وأن المستحيل يصنعه المرتجفون والمترددون ومن يرتضون الدنية لشعوبهم، ليبرروا لأنفسهم ولشعوبهم أسباب فشلهم.
رابعا: أن الناظر بعين فاحصة منصفة إلى المسيرة الظافرة لاتحاد دولتنا، يرى أنها لم تتوقف عند قيام الاتحاد وفقط، انعكاسا لحالة وطنية اشتعلت جذوتها في فترة زمنية محددة لتخبو بمجرد أن تتم ويعلن عن قيام دولة الاتحاد، ولكن عظمة هذا الاتحاد تأتي من أنه لم يقم دولة وفقط، بل أراد دولة بمقاييس عصرية. لذا فما قاله الأخلاء المغفور لهم بإذن الله زايد وصحبه، من أننا اليوم وضعنا الأساس ونستطيع أن نبني الجدار، تحقق بالفعل، لأن الأساس بني على المحبة والتجرد والإخلاص وحب الوطن، وكان البناء قويا متينا استطاع أن يقف في وجه التحديات والعواصف والتقلبات المحيطة.
لذا فإن مصدر فخرنا بتجربتنا، هو تلك الحالة من الاستنفار التي تشهدها بلادنا، والتي تخطو فيها كل يوم خطوات بل وثبات إلى الأمام في شتى مجالات التنمية، فاستطاعت أن تواكب عصرها، إلا أنها في ذات الوقت ما زالت محتفظة بتراثها وأصالتها العربية، بل إن تجربة بلادنا في مجال التنمية، سواء البشرية أو المادية، غيرت من ثوابت نظريات التنمية والمراحل التي يجب أن تمر بها الشعوب في سبيلها، لأنها بدأت من حيث انتهى الآخرون.
ولا شك أن ما حققته دولتنا بالقيادة الحكيمة، وارتقت به إلى مصاف الدول العصرية، وما تحقق من إنجازات في مختلف مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، أهلها لأن تحتل مكانة مرموقة على الصعيدين المحلي والدولي، لتؤكد أنه اتحاد بلغ أشده.
– البيان